وليّ الدين بك يكن
شاعر ملء روحه الشاعرية , وملء قلمه الفصاحة. يستهوي النفس بسلاسة ألفاظه ومتانة قوافيه وعذوبة أسلوبه , ويملكها برقة معانيه التي يصورها تصويراً كله سلامة في الذوق ونزاهة في الفن , فتراه يسترضي القارئ ساعة يرضي حتى ليملأ قلبه سرواً وصفاء , ويستبكيه حين يبكي حتى ليجعله يلمس دموعه لمس اليد , ويحسّ بناره تتأجج من خلال ألفاظه. وقد مازجت الشاعرية , وهي سجية فيه , نفساً عزيزة حساسة , وقلباً طاهراً رقيقاً , فهو إذا تأثرت نفسه وخفق فؤاده قال الشعر فأرسله عفو الخاطر دون إعنات فكر , أو جهاد قريحة لو أعطي امرؤ قوة تصوير النفوس من اهي صوَّر نفس ولي الدين بك يكن بأقرب إلى حقيقتها مما صوَّرها به صاحبها في شعره.
[شكوى المنفي]
قالها يوم نفي إلى سيواس وتخلي عنه أصحابه
حيَّا ربوعَكِ قَطرُ ... يا مصرُ! لله مصرُ
ما لي إليك سبيلٌ ... هذا خلاءٌ وبحرُ
غرَّ الأعادي انكساري ... والانكسارُ يَغرُّ
وسرَّهم طولُ نفيي ... ومثلُ نفيي يَسرُّ
هم حسبِونيَ أقضي ... عنهم وما ليَ ذكرُ
هيهاتِ! بعدي رجالٌ ... والفجرُ يتلوهُ فجرُ
عينٌ بكت قبلَ هذا ... وسوفَ يبسمُ ثغرُ
اِرتجعي يا أَماني ... بالوصلِ قد طالَ هجرُ
إِنَّا عهدناكِ أوفى ... عَهداً إذا خانَ دهرُ
فبينما أنتِ زُهرٌ ... إذا بكِ اليومَ غُبرُ
فليسَ يرفعُ جِدٌّ ... وليس يَخفضُ هذرُ
مرَّتْ عِذابُ الليالي ... وكلُّ عَذْبٍ يمرُّ
أَلتزمُ الصبرَ كُرهاً ... وليس للحُرِّ صبرُ
وأسلِكُ الحلمَ نفسي ... ومسلِكُ الحلمِ وعرُ
لَبَّيكَ يا مجدَ قومي ... لَبَّي نِداَءك حرُّ
دافعتُ دونَ فروقٍ ... قوماً رحلتُ وقرُّوا
سادُوا بها , فلكلٍّ ... نهيٌ عليها وأمرُ
ما كُنتُ أُغلَبٌ لولا ... قومٌ ثَبتُّ وفروُّا
ضاقَ المجالُ عليهِم ... ضيقاً , ولم يُغنِ كرُّ
وفي العيونِ ازوِرارٌ ... وفي الجوانحِ ذُعرُ
فبتُّ تِلقاءِ ليثٍ ... كأنَّما هو قَسْرُ
لهُ شَباةٌ وظِفرٌ ... ولي شَباةٌ وظفرُ
يعدو إِليَّ فأَعدو ... إليهِ؛ زَأرٌ فزأرُ
فَرِيعَ في البيدِ ذئبٌ ... وريعَ في الجوِّ نَسرُ
وظلَّتِ الحربُ بيني ... وبينهُ تستمِرُّ
فاضطُّرَّ للصُلح رُغماً ... ومَنْ بغي يُضطَّرُّ
واغتالني بعدُ غدراً ... وشيمةُ النذلِ غَدرُ
لا يَقصدوني بعُذرِ ... فما على الجبّنِ عُذرُ
بيني وبين الأعادي ... يومٌ , إذا طالَ عُمرُ
إِن عشتُ أَدركتُ وِتْري ... أو متُّ , فالوِتْرُ وِترُ
حتَّامَ أخفضُ قدري ... وما تَعالاهُ قدْرُ
إِن أُمسِ فيهم أَسيرتً ... قد يعتري الحرَّ أسرُ
رضيتُ سيواس داراً ... وما بسيواسَ شرُّ
جنَوا عليها , فأمستْ ... قد أَقفرتْ فهي قفرُ
فلا بها الروضُ خَصْبٌ ... ولا بِها الزَّهرُ نَضرُ
إِندَرسَت مُطرِباتي ... وأصبحت وهيَ دُثرُ
فليسَ لي ثمَّ نظمٌ ... وليسَ لي ثمَّ نثرُ
وكم بمصرَ أديبٌ ... يشدو فترقصُ مصرُ
لَهْفي على سانحاتٍ ... كأنَّما هيَ سحرُ
يقولُها قائلوها ... فيعتري الناسَ سكرُ
[لؤلؤ الدمع]
لا تذكريني , فإنَّ الذِكر يُرجعُ لي ... عاداتِ وجديَ في أياميَ الأُولِ
وعالجيني بيأسٍ منكِ ينفعُني ... أَلبرءُ باليأسِ يُنسي السُقمَ بالأَملِ