[أمين تقي الدين]
مما ألحظه في المحيط الأدبي بعامة أن الأثر الأدبي أو العلمي يكتبه مؤلفان كبيران فينسب على الألسنة لأكثرهما شهرة, وأبعدهما صيتاً, فكتابا البلاغة الواضحة والنحو الواضح ينسبان على الألسنة للجارم رحمه الله, ويترك زميله مصطفى أمين, وكتاب الوسيط في تاريخ الأدب, وقد ظل مقررا بالمدارس والمعاهد أكثر من ثلاثين عاما ينسب لأحمد الإسكندري ويترك زميله مصطفى عناني, و (مجلة الزهور) تنسب لأنطون الجميل وحده, وهو الذي أنشأها ورسم خطتها, ولكن أمين تقي الدين قد ساعده من السنة الثانية وشاركه الأمل والألم, وكان ولي الدين يكن إذا كتب قصيدة للزهور أرفقها بخطاب يبدأ بقوله عزيزي أنطون تقي الدين فجعل الأديبين أديباً واحدا, لاتحادهما في الهدف والمشرب, وقد ولد أمين سنة ١٨٨٤ ببلدة (عقلين) بلبنان, ودرس القانون فصار محاميا نابها, وترجم عن الفرنسية كتبا مختلفة ثم دفعه الشوق إلى مصر فرحل إليها ليزامل صديقه الجميّل في تحرير الزهور والقيام على إدارتها, وبعد أن احتجبت المجلة عاد إلى بيروت ليعمل محاميا كعهده من قبل, ثم لقي ربه في عام ١٩٣٧, بعد أن سود مقالات وقصائد عدة, وقد قلت: إنه أتى مصر على شوق طامح ليحمل رسالة الأدب كما تصورها, ودليلي على ذلك مقال رائع حقا نشره بمجلة الزهور قبل أن يقدم إلى مصر بعدة أشهر, أجتزئ هنا ببعضه كما جاء بعدد شباط (فبراير) سنة ١٩١١ م.
[مصر الأدبية]
بدأ أمين تقي الدين مقاله بسرد أكثر من أربعين علماً من أعلام الأدب والعلم والصحافة رحلوا إلى مصر من سوريا فسقطت نجومهم في سماء الوادي ثم تساءل عن سر ذلك قائلا:
"لست أدري في طبيعة مصر نفسها خاصية الأدب, وقد كانت مصر منذ القديم ولا تزال إلى يومنا هذا أمّ الأدب والمتأدبين, أم هي الحياة، فيها يوحى الشعر, ويُستنْزَل البيان, وقد قام في وادي النيل في كل زمان شعراء مجيدون وكتاب أفاضل منذ فتحها عمرو بن العاص إلى اليوم, خذ أدباء اليوم في القطرين تجد الفرق ظاهرا, أدباء مصر يبتكرون طريقتهم في كل عصر, وأدباء سوريا يقلدون إما الإفرنج وإما الجاهليين, ... ورب قائل يقول إن أدباء سوريا الذين هاجروا إلى مصر إنما هم الذين كانوا زعماء النهضة الأدبية الحديثة فيها, فأنا لا أنكر ذلك ولكنني أرى أيضا أنه لولا مدنية مصر, ولولا الاستعداد الذي وجده أولئك الزعماء في حكومة مصر وبلاد مصر لما استطاعوا أن ينهضوا تلك النهضة الصحيحة, وإلا فلماذا وهم سوريون لم يرقوا بالآداب في سوريا إلى الحد الذي رقيت إليه في مصر, ذلك أنهم استطاعوا أن ينهضوا بسوريا نهضتهم في مصر, ولكن مدنية سوريا لم تكن عونا لهم في عملهم الشاق, فوقفت هذه النهضة في منتصف الطريق".
لست أسوق هذا القول لأؤيده أو أعارضه, ولكني أصور به مشاعر أمين تقي الدين حين هاجر من لبنان ليكون صاحب رسالة أدبية في مصر, وقد وجد من صديقه الكبير أنطون الجميّل صدرا رحيبا, ففسح له مجال العمل إدارة وتحريراً, وظهر أمين تقي الدين بشعره ونثره على صفحات الزهور وعلى غير صفحات الزهور بعد احتجابها, ومن حقه أن نسجل صفحة من جهاده في هذا المضمار ببعض ما قلناه عنه.