بناها قسطنطينُ على أنقاض بيزنطية. كانت عاصمةً لمملكة الرُّوم الشرقية، كما كانت رومة قاعدةً للإمبراطورّية الغربية، أختان تشابهتا بالعزّ، وعاشتا زمناً، لكلٍّ مجدها المؤثل، وجلالها المهيب. وهي كرومة قائمة على سبع تلالٍ مرتفعات، في مثل شبه جزيرة مثلَّثة الزوايا يحيطُ بها الماء من جهاتٍ ثلاث: تطلُّ على بحر مرمره من الجنوب، وتُماشي البُسفور من الشرق، وتلمس خليجَ قرن الذهب من الشمال، ثمَّ ينبسط إليها من الغرب سهلٌ يقف حذاءَها، متهيّباً جلالها، فتُشرف عليهِ من مكانها العالي كالنسر باسطاً جناحيهِ. حصَّنها الرُّوم منذ القِدَم ردّاً لغارات الأعداء، وعزَّزها الترك على أثرهم صدّاً لهجمات الطامعين. فبني الأوَّلونَ سورها وأبراجها، وشادَ الآخرون حصونهم وقلاعها. ولكن الطبيعة بزَّت أولئك وهؤلاءِ في كل ما بنوهُ وشادوهُ، فمنَّعت موقعها بالهضاب المتسلسلة، والبواغيز الضّيقة، فإذا هي كعقاب الجوّ، لا تؤخذ، وإذا هي، كحلقِ الليث، لا تباح أرادها العرب، يوم كانوا يستطيعون ما يريدون، ففشلوا، وحاصروهم حين لم تكن مدافع ولا قنابل، فارتدّوا عنها عاجزين، وظلت تردُّ بمنعتها غوائل الأعداء، وتدافع بعزَتها كوارث الأيام؛ الملك عزيز بها، وسلالة بانيها تتوارث مجدها وتتنعَّم بجاهها، حتى دبَّ الضعف إلى الرُّوم، وتغلغلَ الوهَن في نفوسهم، يوم أبطرتهم نعمة العيش،