وقد يكون أحدنا ماكراً ختلاً مخادعاً , فيسخر بالعلم ويسكن إلى خداعه ومكره لأنهما يمكنانه مما يريد. وقد يندهش الجاهل منه. إنما لا يستطيع أن ينتفع به إلاَّ العاقل الحكيم. فإنه يعلم علم اليقين أنَّ العلم ليس إلاّ مشكاة يستضي بها في ديجور هذه الحياة الدنيا فعليها النور وعليهِ المسير. وليس الغرض من المطالعة أن تنتقد قول المؤلف أو تنقض آراءَه , أو لتأخذ كلامه قضية مسلمة لا نزاع فيها , أو لتتمشدق بما قرأته على رؤوس الإشهاد , لتظهر للملأ أنك تقرأُ الكتب؛ إنما الغرض أن تزن أبحاث الكاتب وتمعن النظر في مقدماته ونتائجه. على أن الكتب كالطعام: بعضه تذوقه ولا تأكله , وبعضه تلتهمه التهاماً , وبعضه تلوكه وتهضمه هضماً. فبعضها تقرأ زبده , وبعضها تطالعه بلا إمعان كثير , وبعضها تطالعه وتدرسه درساً دقيقاً وتمحصه تمحيصاً. وفي
مطالعة الكتب منافع غير التي ذكرت ثلاث. فالدرس يدّخر منهُ العقل حكمة. فالدرس يمدّ العقل بالحكمة فيدّخرها , والجدل يشحذ الذهن ويوقد القريحة , والاقتباس يورث الدقة والإتقان. فإذا كنت ممن لا يطالعون كثيراً , فأنت في حاجة إلى ذكاءٍ تخفي به جهلك؛ وإن كنت ممن يفضلون راحة البال على الجدل والمناقشة , فأنت أحوج الناس إلى ذهن حادّ يدلك على كلام تلقي به حجة خصمك؛ وإن كنت قليل الاقتباس فأنت في حاجة إلى حافظة شديدة تتقي بها شرَّ النسيان. وكل فرع من شجرة الحكمة يوسع دائرة من دوائر العقل. فالتاريخ