وحثالهم من لا يثبتون على الباطل إلاَّ بمقدار ما يفهمون الحق؛ ولكنه على أعظمه وأتمه في هؤلاء الذين يحترفون الأدب لأنهم أهل زلاقة ولَسَن وصنعة من الكلام , وإنما قلوبهم عند النضال في حصون من وراء أفواهم فلا تزال تصرع دون قلوبهم كل حجة , أو ترد على أعقابها مهزومة أو كالمهزومة وهيهات أن تصل إليها مطلقة , أو تنزل فيها إن نزلت إلاَّ موثقة. وصفة المغرور أن يكون لسانه فوق عقله , وتكون نفسه تحت لسانه , فكيف تراه يكون لو تمت له مع هذه الصفة قوة اللسان وشرعة البديهة وشدّة العارضة واستجابة المعاني وهي أخصّ أدوات حرفة الأدب؟ على أني يعلم الله ما رأيت كالغرور من هؤلاء الأدباء يذم لك الغرور وينتفي منه ويعتده السيئة المجترحة التي لا تكفّر عنها الحسنة بالغةً ما بلغت , ثم لا تجده إلا أشدّ الناس كلفاً بأن يكون كل ما يؤثر عن المغرورين مسند إليه , متظاهراً عنه وأن تفشوَ له بذلك فاشية في الألسنة وتذهب عنه القالة في المجالس ليكون مرهوب الجانب , متقى اللسان , مخشيَّ المعرَّة مستعاذاً بالله منه , وليُعرف أنه لا يضع جانبه لخصم , ولا يغتمز فيهِ عدوّ غميزة , وليس أحد معه أبداً إلا على خطأ , وليس هو مع أحد أبداً إلا على الصواب؛ وأنه على ذلك سريع الباردة قبيح الإزراء موجع القذع حاصد اللسان؛ وأن من حمل نفسه عليه فقد حملها على التهلكة وأخطرها لما لا يملك له دفعاً دفعاً , وطلب بها ما إنَّ المعجزة كلها في أيسره؛ وأن من أخلد إليهِ وشدَّ بهِ يده والتمس مناصرته , فذلك