البلغاء وأخطب الخطباء. أما اليوم فقد تبدلت الأحوال. ولم يبق من هذه البلاد إلا الأسماء دون الرجال.
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى رجال الحي غير رجاله
على أن الضربة التي قضت على العراق لم يكن سببها مقصوراً على انحطاط دولة العباسيين فقط كما يتوهمه أغلب الناس. بل زادها هولاً قتل ذوي العلم وذبحهم ذبحاً عن بكرة أبيهم وذلك بعد انقراض دولة بني العباس بقرن ونصف قرن. وهو ما استأصل كل الاستئصال عروق العلم ومنابته فانقطع حينئذ متصل حبل التعليم والتدريس والأخذ والتلقي والتلقين والتأليف والتصنيف، ثم إفناء الكتب والأسفار بالإحراق والإغراق في أم العراق، على وجه شنيع وهذا كله في النائبة الأخيرة التي نزلت بها على يد تيمورلنك في ١٠ تموز سنة ١٤٠١ للمسيح وتبع بغداد في الرزية، وقاسمها البلية البصرة والحلة وسائر مدن العراق الكبرى المشهورة يومئذ.
إن الرزية لا رزية بعدها ... فقدان كل أخٍ كضوء الكوكب
فهذه الرزية العظمى التي لم يقع مثلها في سائر البلاد العربية كالديار الشامية والمصرية
والغربية وغيرها هي التي أسكتت نامة العلماء والشعراء والكتاب ردحاً من الزمن وإذا لم يسمع فيه صوت عربي فصيح في العراق كله.
وساد الجهل في العراق في كل المدة التي ملك فيها بنو تيمور إلى أن انتقلت البلاد إلى أيدي آل عثمان فاستقرت بيدهم سنة ١٠٤٨م، فأخذ الناس حينئذ يتنفسون الصعداء، مما دهمهم من البرحاء بدون أن يخافوا رقيباً أو جاسوساً.