مُنطرِحاً في ذلك الأتونِ ... فلم يكن يا ليلُ من مُعينِ
سِواكَ للخلاص من ذا الأَسرِ
يا أيها العبدُ الجميلُ الأسودُ ... أنتَ لنا المولى ونحنُ الأَعبُدُ
بل أنتَ في مصرَ إِلهٌ يُعْبَدُ ... ففيكَ طابت مُهَجٌ وأكبُدُ
أوْدى بها لولاكَ صيْفُ مصرِ
لأجلِ هذا قد تغنَّى المنشِدُ ... باسمكَ كلَّ ساعةٍ يُرَدّدُ
يا ليلُ! ليتَ الصبحَ ليسَ يُولَدُ ... وليتَ كلَّ أبيضٍ يا أسودُ
فداءُ هاتيكَ الثنايا الغُرِّ
يا صاحِ , فاسْلُ هذهِ النَّوادي ... حافلةَ القاعاتِ بالقُصَّادِ
إن رُمْتَ تَشفي غِلَّة الفؤادِ ... فاقصدْ معي ضِفافَ ذاك الوادي
حيثُ أبو الخيراتِ ظلَّ يجري
يا حبَّذا النّيلُ على ضوءِ القَمَرْ ... وحبَّذا الغبوقُ فيهِ والسَّحَرْ
ركبتُهُ كأنني على سَفَرْ ... في ليلةٍ ما عابَها غيرُ القِصَرْ
كذلك الصفوُ قصيرُ العمرِ
مَعَ غزالٍ من بني الإِفرنجِ ... مُهفهفِ القدِّ كثيرِ الغُنْجِ
ينظرُ عن سودٍ صِحاحٍ دُعجِ ... وجدتُ فيها كلَّما أُرَجّي
من روضةٍ وخمرةٍ وشعِرِ
والريحُ تسري حولَنا بليلا ... تبلُّ من صدورِنا الغليلا
كأنها آسٍ أتى عليلا ... وقدِ أبحناها اللَّمى تقبيلا
فما اكتفت بل عَيَثَتْ بالشَّعْرِ
والنّيِلُ يجري تحتَنا غزيرا ... تهزُّنا موْجاتُهُ سرورا
كما تهزُّ غادةٌ سَريرا ... قد نامَ فيهِ طفلُها قريرا
في مأمنٍ من عادياتِ الدَّهرِ
والبدرُ تلقى وجههُ في الماءِ ... سبائكاً من فضَةٍ بيضاءِ
تلمعُ إِذ تموجُ بالهواءِ ... كأنها السيوفُ في الهيجاءِ
ما بين كرٍّ دائمٍ وفَرّ
والأُفقُ زاهٍ بالنجومِ الغُرِّ ... كأنها لآليءٌ في نحرِ
جاريةٍ من الجواري السُّمرِ ... أو ياسمينٌ لاحَ في مخضرِّ
رَوضٍ تَرَوَّى من جُموعِ الفجرِ
وللنَّخيلِ منظرٍ مهيبٌ ... تُراعُ في جَمالهِ القلوبُ
فوقَ الضفافِ ظلُّها رهيبُ ... صفّاً بصفٍّ زانَها الترتيبُ
مِن كلِّ جبارٍ عظيمِ القَدَرِ
تحسَبها مَرَدَةً طوالا ... تحتَ مظلاَّتٍ زَهَتْ جَمالا
في النيل جاءت تبتغي اغتسالا ... سَحَرَها النيلُ فلن تَزَالا
واقفةً هنا بفعلِ السِحرِ
والذهبيَّاتُ بهِ جوارِ ... بين صُعودٍ فيهِ وانحدارِ
تبدو لنا زاهيةَ الأنوارِ ... كأنها لوامعُ الدَّراري
سابحةً فوقَ عبابِ الغَمرِ
وللشواطئِ لنا تردُّدُ ... فتارةً ندنو وطوراً نبعدُ
وللمياهِ حولَنا تنهُّدُ ... وزَفَرَاتٌ نحوَنا تُصَعَّدُ
والرّيحُ في الشّراعِ ذاتُ نَقْرِ
فلا نملُّ الضمَّ والتقبيلا ... وقد رَجونا الليل
هذا ونحنُ نتبعُ الأُصولا ... في الحبّ لا نبغي بها بديلا
فحبَّذا لو دامَ طولَ الدهرِ
وكانتِ الأكوانُ في هُجوعِ ... من حوِلنا باديةَ الخشوعِ
والزُّهرُ في السماءِ كالشُّموعِ ... قد أُوقدت لعرسِنا البديعِ
والليلُ قسّيساً لعقدِ السرِّ
فبينما نحنُ كذا سُكارى ... وقد خلعنا في الهوى العِذَارا
إذِ الصباحُ قد نضى البتَّارا ... وضَرَب الليلَ بهِ فدارا
وانسكبت دماؤُهُ كالخمرِ
فراغنا مشهدُ ذا القتيلِ ... وامتنعَ الحبُّ عن التقبيلِ
تهيُّباً للحادثِ الجليلِ ... فعدتُ مَعهُ لا أرى سبيلي
غيظاً على الصباحِ ربِّ الغدرِ