غلبت الطبيعة. فالطبيعة لا تغالب، وإذا ما غولبت غلبت. ولكن الإنسان كان قبل مدنيته يخضع الطبيعة ويذللها، فصار بعد ازدهار المدنية يستخدم بعلمه قواها وقوتها، ولكنه يحس من نفسه أنه خاضع لتلك القوات والقوى.
إذا كان مصرائيم وكنعان قد اجتازا برزخ السويس من سورية إلى مصر، فصيرا مناقعها حقولاً، وبحيراتها سهولاً، وأكامها مدناً، وروبيها دساكر وقرى. وإذا كان توتمس وقواده قد عبروا ذلك البرزخ إلى سورية واكتسحوا الأمصار، وثلوا العروش، ونصبوا لهم نصباً على ضفة الفرات، فإن سلاتس زعيم الرعاة قد نهج نهجهم فاجتاز البرزخ إلى مصر ونصب على ضفات النيل هياكل وتماثيل. وإذا كانت عبادة الإله أودنيس والآلاهة الزهرة قد ترامت من قنن لبنان إلى هضاب أصوان، فإن عبادة الإله أوزيريس والآلاهة أيزيس قد استفاضت من شاطئ بحرية المنزلة إلى شاطئ العاصي. وإذا كان الغزاة والفاتحون قد عدوا سورية قلعة مصر، فإن الصناع والتجار الآسيويين قد حسبوا مصر مزرعة سورية، فهبطها يعقوب بأبنائه يمترون، وجاءها الفينيقيون يتجرون.
ظن الرومان أنهم إذا قالوا في الهياكل والمساجد أن ابن مصر من جالية النوبة لا من جالية فينيقيا واليمن، غرسوا في فؤاده حب الأسود الأفريقي لحسبانه أخاً، واقتلعوا من صدره حب الفينيقي والآشوري الأبيض لحسبانه غريباً. ولكن الطبيعة التي لا تخضع إلا لنظامها أبت على المصريين أن ينقادوا إلى الكتب التي قالوا لهم أنها مقدسة. على أن