عبس وجه الطبيعة، واكفهرت طلعة السماء فاستحالت زرقتها سواداً، واتشحت بثوب الغيوم الكالح حداداً، وجادت المزن حزناً بدمعها الصافي، فبرد بعض ما فيها من الحر والحرقة، فسالت في مآقي الأرض حمراء أسفاً ووجداً على هجر شبابها.
اصفر العشب الأخضر من لوعة هذا الفراق، وبكت الشجر فتساقطت منها الأوراق، وأصبحت تلطم جذعها بغصونها الجرداء، وحيث كنت تسمع تغريد الطيور الشجي الرخيم، لا تسمع الآن إلا حفيفاً رائعاً أشبه بزفرات المهجور الحزين. إذ أن ريح الشمال قد هبت وكان لهبوبها في الغاب صدى نوح وعويل، وأخذت تتلاعب بالأوراق الذابلة المتناثرة كتلاعب الرزايا بالأنام.
وكأن الطيور قد أنفت هذا المشهد، فأخذت تشق الفضاء ولسان حالها يقول: نحن رسل الزهو والزهر، ووفود الصفاء والبشر. . . لا تألف إلا الرياض الخضرة والحدائق النضرة، وإلا تحول تغريدنا إلى نوحٍ ورثاء، وأصبح أشبه بنعيق البوم والغربان. فنعود متى عاد الربيع. . .
أما تأثير هذا الفصل في النفوس فشديد. وليس بأقل من تأثيره في الطبيعة. فيشعر الإنسان بانقباض يستولي على فؤاده، ويسمع في داخل صدره صوتاً ينذره بقرب فصل الشتاء فصل الشيخوخة، فيتساءل حزيناً: وهل أرى فصل الربيع ثانية؟ هل أرى الأشجار تخضر والأطيار تعود. . . فيستسلم لهذه الأفكار التي تغذي النفوس بغذاء الحقيقة، وتروي القلوب التي حرقها الظمأ إلى المجهول. ويا نعم ما قال الشاعر: