وصلت إلى المقبرة فوجدت بابها مفتوحاً والناس يتقاطرون إليها أفواجاً، وهم متشحون بالسواد حاملون الزهر والأكاليل المضفورة، وقد استولى عليهم الانقباض ورفرف على رؤوسهم روح الخشوع. فدخلت مع الداخلين حاسر الرأس كابت الفؤاد. وما وطئت قدمي هذه الأرض المقدسة حتى اعترتني هزة واستولت علي قشعريرة وهتف صارخ في صدري: سلام على أهل القبور الدوارس، سلام على سكان الديار الموحشة والمنازل المقفرة، رحمة وسلام عليكم أيها الراقدون بسلام. . . .!
وقفت منفرداً في إحدى زوايا المقبرة أدير الطرف حولي وأتأمل ما يكتنفني. . . . . هنا أم ثاكلة جاثية على ضريح وحيدها تذرف على بلاطه البارد عبراتها المحرقة وتسكب على الراقد طيه صيب صلاتها الحارة. وهناك يتيم جاث على قبر والدين اختفطهما ملاك الموت
قبل الأوان. وهنا أخ يبكي على رمس أخيه، وهناك حبيب يصلي على جدث حبيبه. وقد امتدت فوق هاتيك القبور أغصان السرو ذات الخضرة القاتمة الدائمة، ناشرة على مراقد الموتى ظلها الرهيب، وحفيف الأوراق فيها أشبه بالندب والعويل.
أخذت أطوف في أنحاء المقبرة، فرأيت قبوراً زينتها الأكاليل ونمت حولها زهور ورياحين زرعتها يد المحبة وسقتها دموع الوفاء فنبتت رمزاً عن الحب ودليلاً على الذكر وحفظ العهد. ورأيت غيرها عارية مهملة وعلى جوانبها قليل من العشب اليابس وليس من يضع عليها زهرة الذكر أو يذرف عليها دمعة الوداد، فقلت: أين الذين أحبوهم؟ تبرأ