فأنت ترى أنه ليس فيه نفي طواف الإفاضة والوداع، بل قصده بيان أن القارن يكتفي أن يطوف لقدومه طوافا واحدا لحجه وعمرته. نعم؛ في بعض الروايات عنه ما يدل - بظاهره - على ما ذهب إليه الشارح، وهو قوله بعد قول نافع: فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم؛ حتى كان يوم النحر؛ فنحر، وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الحافظ (٤ / ٥) : " وهذا ظاهره أنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة، وهو مشكل ". قلت: لكن هذا الظاهر غير مراد من الحديث، والدليل قوله فيه: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه من المعلوم أنه عليه السلام كان في حجه قارنا، وأنه طاف لذلك طوافا واحدا، ثم طاف طواف الإفاضة، ثم طواف الوداع؛ كما ورد عن جمع من الصحابة؛ منهم ابن عمر نفسه، في " البخاري " (٣ / ٤٢٤ - ٤٢٦) وغيره. [فإذا حمل] قوله في الحديث: كذلك فعل رسول الله على اكتفائه بطوافه الأول عن ما بعده من الإفاضة والوداع - كما فهم الشارح واستشكله الحافظ -؛ تناقض حديثاه، وذا لا يجوز؛ فوجب حمله على معنى لا يختلف مع حديثه الآخر، وليس هو إلا ما ذكرناه من اكتفائه لقدومه بطواف لحجه وعمرته، لا الاكتفاء به عما بعده من الطواف. وبعد؛ فإن البحث يحتمل الزيادة، ولكن المجال ضيق، فنكتفي بهذا. ولا بد من التنبيه على أمرين آخرين: الأول: أن احتجاج المؤلف بحديث عائشة؛ هو مثل احتجاجه بحديث ابن عمر؛ أعني أن عائشة كانت قارنة، وأيضا فإنها كانت حائضا حين قدمت مكة، فلم تستطع أن تطوف حتى قضت مناسكها كلها؛ كما في " البخاري " وغيره، فلا يقاس بها الرجال، والنساء الطاهرات؛ كما لا يخفى. والأمر الآخر: أنه قد فاته الدليل على وجوب طواف الزيارة؛ وهو قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} ؛ وهو طواف الإفاضة؛ كما جزم به الشوكاني في " النيل "، (٥ / ٦١) وكذا ابن كثير وغيره. (ن)