ويلاحظ أن بلاد الجنوب كان للنصرانية واليهودية مكان فيها، وخصوصا النصرانية، وفيهم مجوس، فكان رفق الإسلام بهؤلاء وعقد المعاهدات بينهم على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين، مقربا لهم، وكانوا أهل علم بالديانات، ومنهم من أسلم بناء على ما عندهم من الكتب التي تبشر بمحمد صلي الله تعالي عليه وسلم، فيكون إسلامهم شهادة بصدق الدعوة المحمدية، فوق أنها تشتمل فى ثناياها على ما يدل علي كمال صدقها إذ هي التوحيد ومكارم الأخلاق، وحسن المعاملات وتوثيق العلاقات الإنسانية بين الناس أجمعين لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا قبيلة وقبيلة.
الأمر الثالث: أن هذه الوفود جاءت تتري وفدا بعد آخر في السنة التاسعة والعاشرة أي بعد فتح مكة المكرمة، وتخاذل الرومان عن لقاء الجيش الإسلامي وقد ذهب إليهم في دارهم أي عند الشام، وقد تخلت عن نصرتهم القبائل العربية، فلم يفعلوا ما فعلوه فى مؤتة، إذ كان منهم جيش كثيف يبلغ مائة ألف أو يزيدون.
وبذلك أخذ النفوذ الروماني ينحسر عن العرب، ويذهب ظله كما كان الأمر بالنسبة لفارس.
وإن ذلك من شأنه أن ينظر إلى الدين الجديد علي أنه الغالب، المزيل للوثنية، والمحيي للعزة العربية. فهو الذي يجعل العربي يحس بعزته أمام بني الأصفر من الرومان، وينفض عنه سيطرة كسري ومن وراءه وخصوصا أن الكتب التى أرسلها النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كان يظلها النور المحمدي وقوة الحق أمام إرهاب الباطل، فأثار في ذلك نخوة عربية أمام الطغاة فى الشمال والجنوب فكان من آثار ذلك أن ألقوا بكل نفوذ عربى.
وإن هذا الوفد الذى لقى النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وكان من أهل الجنوب الذي قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنا لا نبرم أمرا خارجيا إلا بعد استئذان كسري، فأشار إليه النبي صلي الله عليه وسلم بأنهم سيرثون ملك كسرى، فأعطوا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، عهدا بأن يتبعوه.
ومن هذا يتبين رغبة العرب الذين امتد إليهم نفوذ الرومان والفرس فى أن يخلعوا نيرهم، ويردوا إليهم أمرهم، وقد وجدوا فى الدعوة المحمدية معينا لهم على أن يتحرروا من التبعية، وهم الأحرار الذين فضلوا الشدة في عزة، عن الأمن فى ذل.
وقد رأي ذلك المتاخمون لفارس فى كلام النبي صلى الله تعالي عليه وسلم، وفى لقائه للوفود فى مكة المكرمة، أولا عند عرضه نفسه علي القبائل قبيل الهجرة، وفي المدينة المنورة. وثانيا عندما أخذ يلتقي بالوفود، من حضر موت واليمن ونجران.