وقد أدرك العزة العربية في الدعوة المحمدية أولئك الذين يتاخمون الزومان عندما التقي بهم في مؤتة، ولكنهم لما أدركوا أن العزة في الأخوة المحمدية لم يعاونوهم في تبوك، فلم يريدوا لقاء جيش الإسلام بعد أن أعدوا العدة، وعينوا المدة، فكان ذلك إشارة للعربي الحر، (وكلهم أحرار) إلي موطن عزته، ومكان رفعته.
لذلك أخذ الإسلام يدخل في الصدور، وقد فتحت له الأبواب، فى القبائل المتاخمة للرومان في الشمال وفى الجنوب كله، وخصوصا ما تاخم الفرس وكان للفرس فيه نفوذ، فوجد التخلص من هذا النفوذ المذل، بالإسلام.
وأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لم يترك الأمر لتلك المنازع وحدها، بل كان يرسل الرسل معلمين لهم والبعوث فى السرايا، فما كان رجال السرايا كما ذكرنا إلا رجال تعليم ودعوة، ولكن لأنهم يجتازون صحراء ويلقون ناسا غلاظا شدادا، كان لا بد أن يكونوا من أهل الحرب، والعلم معا، فكانوا يحملون علم محمد صلي الله تعالي عليه وسلم، أو بالأحري بعض علمه، ويحملون مع ذلك سيفه، فهم يجاهدون بالأمرين والوقائع تعين استعمال أحدهما:
وإن الرسل كثيرون، والسرايا أقل من الرسل.
وقد ابتدأت الرسل إلى الملوك والأمراء، سواء في ذلك العرب وغيرهم فكتب النبي صلى الله تعالي عليه وسلم كما ذكرنا إلي قيصر الروم، وكسري الفرس، ومقوقس مصر، ونجاشي الحبشة، كما أرسلت إلى أمراء اليمن وحضرموت، ونجران، وكثيرون من أولئك أجابوا بأن طلبوا من يعلمهم الإسلام، لأنهم استجابوا له، وأبقاهم النبي صلي الله تعالى عليه وسلم علي ما تحت أيديهم، وكذلك منهم من أوفد وفودا بالمبايعة علي الإسلام.
ولو وازنت بين أثر هذه الكتب في العرب، وأثرها فى غير العرب، كهرقل وكسري لوجدت أن أثرها في الأمراء العرب كان إيجابيا بالاستجابة وعدم المخالفة، وأما أثرها فى غيرهم، فإن استثنيت النجاشي الذي أسلم فإنا نجد الباقين أجابوا بالرفض فى عنف أو رفق فهو رفض في الحالين.
وإن السرايا كانت كما أشرنا دعاة إلي الحق، ولنذكر خبرين يثبتان مقدار عناية النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بالدعوة، وهما خبر إرسال معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب، وكلاهما كان من علماء الصحابة بالإسلام، وإذا كان معاذ قد اشتهر بالعلم وفقه الإسلام، فعلي المجاهد المحارب، اشتهر بالعلم وفقه الإسلام، حتي قيل إن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال:«أنا مدينة العلم، وعلي بابها» واشتهر من بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بالفقه والقضاء معا. حتي إن عمر رضى الله تعالى عنه فى إمارته كان إذا مسألة تعقدت قال مسألة ولا أبا حسن لها، لأنه قوي العلم والفقه والإدراك.