وقد رويت عنه روايات فى قضائه دالة على نفاذ بصيرته، وانفتاق عقله الذى هو قبسة من الهدى المحمدى، إذ رضع لبان هذه الهداية صغيرا، وتربى عليها، ونزح بدلو المعرفة من أعظم ينبوع لها:
وقد ذكرت له مسائل فى القضاء هداه الله تعالى إليها، فقد كان يحاول الوصول إلى الحقيقة.
خصوصا فى الأنساب، فلا يترك من ولدا من حلال من غير أب.
تنازع اثنان فى نسب ولد، ولم يكن لأى واحد منهما دليل، وكان المنتظر أن يتهاتر الادعاآن، ولا يكون للولد نسب، فلما لم يجد سبيلا أقرع بينهما، وحكم بالنسب لمن تحكم له القرعة، وعليه أن يدفع الدية للآخر، وبهذا أنصف الرجلين ولم يهدر نسب الولد، وبهذا أخبر الإمام أحمد عن على، وقد أفرد عن غيره بهذا الرأى، وروى عن على كرم الله وجهه قضاء فى مسألة معقدة، وانتهى فيها إلى حكم، لا يزال موضع إعجاب رجال القضاء إلى اليوم.
روى الإمام أحمد أن قوما كان يغير عليهم أسد، فبنوا له زبية (مكانا يتردى فيه) فتدافع الناس فسقط رجل، فتعلق به آخر، ثم تعلق بالآخر ثالث، وتعلق بالثالث رابع، وقد جرحهم جميعا الأسد وماتوا. فجاء أولياء المقتولين، وهموا بأن يقتتلوا. فقال لهم إمام الهدى بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أتريدون أن تتقاتلوا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حى، إنى أقضى بينكم قضاء إن رضيتم به، فهو القضاء، وإلا أحجز بعضكم عن بعض، حتى تأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون هو الذى يقضى بينكم فمن عدا بعد هذا فلا حق له.
كان قضاء على فى القضية، يسير على مبدأين:
أحدهما أنه لا يبطل دم فى الإسلام، وذلك مبدأ مقرر روى بعبارته عن على كرم الله وجهه فى الجنة.
الثانى- أن العجماء جبار، أى ما تجنى الدواب لا غرامة فيها إلا أن يكون صاحبها المتسبب فيغرم هو الدية كلها أو بعضها.
ونجد أن الأول تسبب فى هلاك الثلاثة بعد، وقد تمكن السبع من الجميع بترديه أولا، ثم تعلقه بالثانى والثانى بالثالث والثالث بالرابع.
وكانت الدية واجبة كاملة لهم جميعا بناء على القاعدة الأولى، ولكن ليستنزل من دية كل واحدة دية من تسبب فى قتله، وقد تسبب فى قتل ثلاثة، فيأخذ ربعا، بإسقاط ثلاثة أرباع لمن تسبب فى قتلهم، فهو السبب فى قتل ثلاثة.
والثانى تسبب فى قتل اثنين، فينقص من ديته الثلثان، فيكون له الثلث، والثالث، تسبب فى قتل الرابع، فيخصم من ديته النصف، والرابع، وهو الذى سقط أخيرا لم يتسبب فى قتل أحد، فلا يخصم من