ولقد قال فى هذا صاحب الروض الأنف، وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع، فقد يكون ذلك لوجوه أحدها تفريغ النساء إلى الأزواج ... وقد يكون ذلك منهم لينشأ الطفل فى الأعراب، فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسمه ... وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبى بكر حين قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله، فقال: وما يمنعنى وأنا من قريش، وأرضعت فى بنى سعد. فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات، ليتربوا على تحمل الأجواء، ويتنسموا نسيم البادية، ويعرفوا عاداتها، ويخشوشنوا بخشونتها، ولا ينشئوا فى حلية المدينة، غير متعرضين لما تقتضيه الحياة من تحمل الأعباء، وما تفرضه مقتضياتها من شدائد ليكون منها الأشداء.
٨٦- جاءت المراضع إلى مكة من بنى سعد بن بكر يردن الرضعاء يرضعنهم. وكان من عادة العرب ألا تأخذ المرضع أجرا على الرضاعة، وإن كن يقبلن من ال الطفل الهدايا والرعاية. فتسد بعض حاجاتهم، ويرين من العار أن يكون لهن أجر منتظم، وسرى بينهم المثل السائر «تموت الحرة، ولا تأكل من ثديها» .
ومنهم كما جاء فى الروض الأنف من كن يقبلن الأجرة، إذا ألحت بهن الحاجة.
ولقد كان محمد يتيما لم يترك أبوه شيئا يعد ثروة، فقد ترك خمسة جمال، وبعض الشياه، وأمة اسمها أم أيمن التى حضنته بعد وفاة أمه الكريمة فكان يتيما فقيرا.
وقد حضرت المراضع ترجو أن يعهد إليهن بمن يرضعنه راجيات من هذه الرضاعة الهدايا أو رضخا من المال، لا أجرة يؤجرن بها أثداءهن، فإذا كن يرجون، فإنهن لا يرضعن إلا أولاد ذوى اليسار، ولذلك أعرضن عن اليتيم الفقير، وبذلك خرج كل المرضعات بطفل من ذوى اليسار، إلا حليمة بنت أبى ذؤيب، وكان زوجها معها، واسمه الحارث بن عبد العزى بن رفاعة.
وكانت المرضعات كما قال الواقدى عشرا كلهن عاد بالأولاد إلا حليمة، فلما رأتهن جميعا أخذن أطفالا، ولم يبق إلا اليتيم الطاهر محمد بن عبد الله، أخذته راجية الخير، وإن لم ترج العطاء، ولنتركها تحدثنا كيف قبلته، فإنها تصور لنا طيب نفسها، وما أفاضه الله تعالى عليها من خير بسبب بركة اليتيم الكريم، فهى تقول: