٨٨- إذا كان محمد قد أقدم باليمن والبركات على أهل مكة، يرد أبرهة وفيله، وجيش اليمن مدحورين، عادوا، فبركته بعد ولادته تسير معه حيث سار. لقد رضيت باليتيم، وصاحبها قبله، وكلاهما طيب النفس مطمئن القلب. مستعين بالله تعالى قانع بما يعطيه، فجزاها الله تعالى جزاء حسنا فأطعمهم من جوع، ودر عليهم الأثداء الجافة، فأضاف إلى لبنها لبنا كفاه هو وصبيها وأخصب كلؤهم بعد إجداب، وامتلأت أضراع غنمها، فكان الخير العميم والفضل العظيم.
وقد يسأل سائل: لم كان هذا، ويستغرب، ولكن لا غرابة لمن يؤمن بالله تعالى فإن له تقديرا فوق تقدير العباد، ونظاما فوق نظامهم، ولماذا يستغرب من لا يؤمن إلا بالمحسوس، ويربط بين الأسباب العادية ومسبباتها.
وإن الذى نقف عنده هو أن هذا الغلام الذى صنعه الله على عينه، ولد يتيما، ولكن لم يذق قهر اليتامي، ولا ذل اليتيم، بل كان بين أحضان من يحبونه، فأول حواضنه أم رؤم لم تر فى الوجود نورا إلا نوره، وغمرها حبه، وغمرته بعاطفتها، فكان كل حبها له، لم يشركه فيها زوج إذ فقدته فال حبه إليه، فكان له صفوا خالصا، لم يرنق بشركة، والتقى فى عاطفتها حب لزوج كريم لم تنعم برفقته، وابن حبيب محبب فيه كل ما فيه، وكانت الحاضنة الثانية أم أيمن التى كانت ميراثه من أبيه، أحبته كما تحب الأم ولدها وكانت له بعد أمه رفيقة به أضافت إليه من حنانها ما عوضه، وإن لم يكن العوض كالأصل، ولا البديل كالبدل.
ثم كانت الحاضنة الغربية التى صارت برضاعه أما كأمه، خلق فيها رب العالمين محبته، وجعله يمنا وبركة لترى فى محبته حب الله، ولترى فى عاطفتها عليه رزق الله تعالى.
والحواضن الطيبات الطاهرات هن اللائى يدر منهن العطف الإنسانى، فمنهن يتلقى العواطف الاجتماعية والأنس الإنسانى، ولذلك نشأ محمد عليه الصلاة والسلام إنسانا محبا يألفه كل من يعرفه.
وإذا كان قد فقد الأب، فقد قيض له الجد، وإذا كان قد فقد الأم فى باكورته، فقد تغذى من عطف أم أيمن، واستقى منها أكرم العواطف، وهذا كله فوق ما أودعه الله إياه من خلق كريم عظيم.
٨٩- أخذت حليمة ترضعه حولين كاملين، وهو فى حضنها مع ولدها لا يفترقان، لا تضن عليه بعطف ولا محبة، ولا تخص ابنها بفضل منهما بل هما على سواء.
فما بلغ الحولين حتى استغنى عن اللبن وأخذ فى الغذاء حتى كان غلاما جفلا، أى قويا ممتلئا يستغنى بالطعام. ولم يذكر التاريخ أكانت تلتقى به أمه، أم تركته إلى البادية مطمئنة عليه!!، ولكن إذا كان