أخلاقه العامة والخاصة، ولعله أخبرها أيضا بما كان من لقاء الراهب، ومن إكرام الله تعالى فى الحر، وما حسبه ملكين يظلانه فى الحرور إذا اشتد، وغير ذلك من ارهاصات.
ثم ما كانت ترى من مكانة له فى قريش، ومحبة غامرة له من كل من يلقاه، فهو المحبوب المألوف.
كل هذا أوجد فيها طموحا لأن تكون زوجا له، وأن تكون أما لأطهر الأولاد من أطهر الرجال، ورغبت فى ذلك أشد الرغبة، وهى التى بعد هلاك زوجيها الأولين اللذين كان لها منهما الولد- كثر طلاب يدها من أشراف مكة، ولكنها العزوف العيوف التى ردت كل طلب مع كثرة من طلب، وعلو أقدارهم المادية فى نظر الناس، والنسبية فى نظر ذوى الأنساب.
ولكنها وجدت فى الشاب الهاشمى محمد صلّى الله عليه وسلّم ما ليس فى الرجال شيبا وشبابا- فرغبت فى الإملاك منه فى غير عشق ولا هيام، ولا رعونة وطيش، ولكن فى إرادة مقدرة، وتفكير فى الماضى والحاضر والقابل، فقد علت خديجة عن حال العشاق، ولم يكن سنها، ولا شرفها، ولا مكانتها فى قريش لتسمح أن يغريها من الصفات ما يغرى الغريرات من النساء.
ولكن محمدا (عليه الصلاة والسلام) هل طمع فى الزواج منها أو من غيرها؟ أو هل حدثته نفسه بمعنى من هذه المعانى، أو هاجسة من هذه الهواجس؟ إنه لم يثبت شيء من ذلك لأن محمدا عليه الصلاة والسلام ما خلب كبده أمر من أمور اللذائذ والشهوات وما يتصل بها، ولكنه إذا نبه يتنبه، فكان لابد من منبه.
١١٥- أدركت بفطنتها وغريزتها أنه لابد من أن ينبه، فتولت هى ذلك الأمر وللنساء فيه قدرة، وإن كانت من مثل خديجة فيه مواجهة واحتشام من غير إسفاف.
أرسلت نفيسة بنت منية لتنبه محمدا عليه الصلاة والسلام ولتجس نبضه. وقد فعلت، ولنترك الكلمة لها:
قالت: كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهى أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها، لو قدر على ذلك، طلبوها، وبذلوا لها الأموال ... فأرسلتنى دسيسا إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن رجع فى عيرها من الشام، فقلت: يا محمد- عليه الصلاة والسلام- ما يمنعك أن تتزوج.. قال:«ما بيدى ما أتزوج به، قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب. قال: فمن هى؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لى بذلك، فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا» ذهب محمد عليه الصلاة والسلام للقائها، فواجهته بالأمر، وخاطبته بعد أن استوثقت من أنه لا يردها،