وهنا يسأل سؤال: لماذا ابتدأ بالقل وانتهى بالكثر! والجواب أن حياة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيها قبل البعثة البشرية الكاملة فى كل أحوالها فى سرائها وضرائها، فى كريهتها، ومنشطها، فى ضيقها ورخائها، فلم يتربه الفقر ولم يذله القل، بل صبر عزيزا، وقنع كريما، وجد ليكسب قوته، وحاول أن يخرج من ضيق الفقر بقوة العمل، من ضنك العيش ببحبوحة النفس، وغناها، فكان الفقير العزيز الكريم العامل المكتسب المبين، فلم يقل فى فقره ربى أهانن، وعاش مع الضعفاء شاعرا بضعفهم، وبإحساسهم، لا يسير وراء الأمانى والأحلام.
ثم اختبره الله تعالى بالمال، فكان الشاكر، الذى يفيض بالخير على غيره، ويعلم حق المال فى مورده، ومصرفه معا، فلا يكسب إلا من طيب، ولا ينفقه إلا فى طيب، وهو فى كسبه وإنفاقه لا يكون إلا نافعا، فكسبه طيب، وصرفه طيب.
وثبت من النظر الاجتماعى أن الكسب الطيب هو الذى يكون بطريق فيها نفع عام، فالزراعة كسب طيب، لأن فيها تقديم الغذاء والكساء مما تخرج الأرض من زروع وأثمار، والعمل باليد فيه كسب طيب، لأن فيه نفعا عاما بالصناعات النافعة، والاتجار كسب طيب، لأن فيه الجلب للناس من أماكن لا يخرجون إليها وفيه توزيع خيرات الأرض على أهل الأرض لا يحرم منها إقليم ولا يستطيل بالقوة المادية فيها طاغ.
وأخيرا محمد بن عبد الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) ضرب للناس فى بشريته قبل البعثة أعلى مثل للفقير الصابر العامل فى فقره، والغنى الشاكر الذى عاش كالضعفاء فى غناه، فكان غنى النفس فى الحالين.
١١٩- وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد أن استقامت لديه أسباب الرزق لم يتجه إلى اللذات يشتار عسلها ويترع منها، بل كان الزاهد فى غير الحلال المعروف الذى لا يتنافى مع المروءة ومكارم الأخلاق، بل كان زاهدا غير محروم، وطالبا للطيبات غير مبتغيها، لأن الابتغاء قد يدفع إلى اشتهائها.
وهناك أمر اخر، كان يجعل المال غير ذى شأن إلا بالقدر الذى يعين على مكارم الأخلاق، والنفع لبنى الإنسان، وهو ابتعاده عن كل أوهام الجاهلية، وأحقادها، ومنازعاتها.
وفى وسط بحبوحة العيش، ومن غير ترفه، قد أخذ يدرس الكون وما فيه ومن فيه، ما وراء الكون من أسرار الوجود، مبتعدا عن الوثنية، وما حولها، مستنكرا عبادتها، غير مستسلم لتوهم أن فيها تأثيرا فى الإنسان.