لقد وقف أسن قريش يدعوهم إلى السلام وإنهاء الخصام، فقال:
«يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم: فارتضوا ذلك، وعلموا أنه توفيق الله تعالى عندما ظهر أول داخل، فإذا هو محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال كبيرهم: هذا الأمين رضينا به حكما.
وكان محمد صلى الله تعالى وسلم يسمى الأمين، وقد اختص بهذا الاسم، بحيث اذا أطلق لا ينصرف إلا إليه، وقد أشرنا إلى ذلك، وكلما مضى فى عمره الكريم زادوا استيثاقا من أمانته وصدقه وحكمته وعدالته.
لذلك طابت نفوسهم جميعا عندما علموا أنه سيكون الحكم بينهم الذى يرد القضب إلى أجفانها.
انتهى إليهم وأخبروه الخبر، فطابت نفسه وقرت عينه، إذ قرت به القلوب المضطربة وقال: هلم إلى ثوبا فأتى به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده، ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، حتى اذا بلغوا موضعه، وضعه بيده الشريفة، ثم بنى عليه» «١» .
هذه حكمة بالغة، انحل بها الخلاف، وانتهى إلى وفاق من أن تمشق السيوف، ويستعدوا للحتوف، وهكذا كانت النفحة المباركة من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وقد بدت بوادر النبوة، وظهرت إرهاصاتها.
١٢٥- قامت الكعبة الشريفة متجهة إلى السماء، واستمرت على ذلك فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يود أن يعيدها عليه الصلاة والسلام إلى ما كانت عليه فى عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكنه قدر أن قريشا قريبو عهد بكفر، فلم يزعجهم.
وبعد عصر الراشدين، ثم عهد معاوية، ثم جاء عهد يزيد بن معاوية، وخرج عليه الخارجون من أهل الإيمان، وكان ممن خرج عليه عبد الله بن الزبير، وقد قوى أمره بعد أن قتل الإمام الحسين بن على، تلك القتلة الفاجرة، وقد بايع الكثيرون ابن الزبير.
ثم تجرد له عبد الملك بن مروان، وكانت المغالبة، وحوصرت مكة التى كان بها ابن الزبير، ورميت الكعبة بالمنجنيق، وتهدمت، فاتجه ابن الزبير إلى إقامتها على قواعد إبراهيم، فأعاد طولها، وأدخل من الحجر الأذرع التى كانت قد نقصت منها لضيق المال الحلال الذى كان بيد قريش، وجعل لها بابا اخر، وكان قد سمع عن طريق خالته أم المؤمنين التى روت حديث النبى عليه الصلاة والسلام الذى ذكرناه انفا.