لقد أتموا بناء البيت الحرام، وكان ارتفاعه الذى بنوه ثمانية عشر ذراعا وأخرجوا منه الحجر، وهو ستة أذرع، أو سبعة من ناحية الشام، لأنهم قد قصرت نفقتهم، فلم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم.
وقد يسأل سائل، إن المفروض أن قريشا كانوا من أغنياء العرب، وبجوارهم ثقيف، وهم أغنياء، وكان ممكن أن يعلنوا اكتتابا عاما يجمعون به ما يريدون، فكيف تقصر بهم النفقة عن البناء.
والجواب عن ذلك أنهم لم يشركوا العرب فى بنائهم ليبقى لهم الاختصاص بسدانته وبشرفه، وبإنشائه، وفوق ذلك هم أرادوا ألا ينفقوا منه إلا بمال مكسوب من طيب حلال، وليس بمكسوب مما يجرى فيه كسب خبيث أو فيه شبهة خبث قط، ويظهر أن الطيب من المال عندهم لم يكن كثيرا، إذ كثر فيهم الربا والميسر، ومن الصعب إخراج الطيب، من بين هذا كله.
ولقد جعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية الشرق، ويقول ابن كثير: جعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاؤا، ويمنعوا من شاؤا.
وإن النبى عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يعيد البيت إلى ما كان على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لولا أنه يخشى عليه كثرة الهدم والبناء، فقد ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها:«ألم ترى أن قومك قصرت بهم النفقة، ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة، وجعلت لها بابا شرقيا، وبابا غربيا وأدخلت فيها الحجر» .
١٢٤- تم بناء البيت الحرام، ولم يختلفوا فى شيء عند إقامته، لأن كل قسم منه اختصت به بطن من بطون قريش، ولكن أمرا لا يقبل القسمة اختلفوا فيه، وهو الحجر الأسود، اختلفوا فيمن الذى يضعه فى موضعه من هذه البنية.
تجادلوا فيمن يضعه، وتخالفوا، وكان الخلاف شديدا، وكادت الدماء تسيل لتلغ فيها السيوف، أراد بنو عبد الدار أن يضعوه، بما أعطاهم من قبل قصى من سدانة البيت، وقربوا جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى بن كعب بن لؤى على الموت وأدخلوا أيديهم فى الدم المملوءة به الجفنة.
ومكثت قريش على تلك الحال التى تأزمت حلقاتها أربع ليال سويا.
ثم اجتمعوا بعدها فى المسجد الحرام، وتشاوروا فى هدأة، وأخفيت جفان الدم أو جفان الموت، وتناصفوا فى القول، وأخفوا نوازع الشر، أو استلوها من الأضغان، وأن القصد الطيب يكف فى كثير من الأحيان نوازع الشر، فيفتح فى وسط الخصام، نورا من الوئام، وقد كانت الجلسة الهادئة سبيل ذلك، ببركة بيت الله الحرام.