للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان فى منطقه حلاوة، فيخرج اللفظ من لسان واضح بين، تخرج الحروف من مخرجها، وتقع فى مواضعها، والسامع مشدوه من حلاوة الكلمة، وحلاوة اللفظ، والمعانى الأبكار، فى أسلوب لا توعر فيه، ولا تكلف. ولقد قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فى وصف كلامه «ما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسرد الكلام كسردكم هذا «١» . ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه» .

فكان كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم يكون بأناة، غير مندفع فى القول، ولا متابع له فى استعجال، حتى إن عائشة رضى الله تعالى عنها تروى أن حديثه لو عد السامع حروفه عدا لأحصاها.

وإن ذلك هو أفصح النطق، وأبلغ الإلقاء، ذلك لأن الإمهال فى القول يجعل السامع يتذوق جمال الألفاظ، ويتأمل المعاني، ويستحفظ ما قال القائل، ويتابعه فى أفكاره من غير إعنات لنفسه، ولا ملال، وإن الملل يعترى السامع، إذا فاته تتبع المعانى، وإدراك المرامى والغايات.

١٣١- ومنطق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان خاليا من الفأفأة والتمتمة، وكل عيوب الكلام فى صوت هاديء عميق يجمله الصدق ويدخله فى مداخل النفس، ويوجه الرشد إلى الحق، ونغمات صوته هادئه قوية فى صوت غير أجش، ولا جفوة، ولكن التقى فيه عمق النغم الفطرى بجمال الصوت، وجهارته فى غير ضجيج ولا صخب.

ولقد روى أن الحسن بن على أحد السبطين الكريمين قد سأل هند بن أبى هالة ربيب النبى عليه الصلاة والسلام من خديجة أم المؤمنين، وكان هند رجلا وصافا، سأله حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: قلت صف لى منطقه، قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، متواصل الأحزان، دائم الفكر ليس له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه «٢» . ويتكلم بجوامع الكلم، فضلا، لا فضول فيه، ولا تقصير، دمثا ليس بالجافى ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا، لم يكن يذم، ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض أحد للحق بشىء حتى ينتصر له، إذا أشار فبكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسري، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام» .


(١) السرد هو متابعة الكلام من غير تمهل، بل على الولاء والاستعجال فلا يعطى السامع فرصة تذوق الألفاظ والمعانى.
(٢) أى يستعمل جميع فمه عند الكلام، فلا يتكلم بطرف اللسان، بل يقبل على القول إقبال المهتم به.

<<  <  ج: ص:  >  >>