للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنه مهما يقل الرواة فى بلاغة كلمه، وفصاحة لفظه وجمال نطقه، لا نصل إلى حقيقة بلاغته، فإن المأثور الذى نقرؤه، نجد فيه العلم المجتمع، والعبارات التى يستطيبها كل مستمع، يجد فيها نفاذ الإلهام، وتناسق الألفاظ، وترى فيه الحكم، وحسن المأخذ، والجمع بين الأطراف فى لين ويسر، فلا لفظ جاف، ولا معنى مستخف بل كل الكلام فى معناه وخواطره، وماخذه، يدخل إلى القلوب، فيجد مساكنه، وإن المستشهد بقوله يردده أمام العامة، فليقفونه، وأمام الخاصة فيهضمونه، يفهمه كل إنسان مهما تكن طاقته، لا يتخير غريبا لغرابته ولا لفظا لحلاوته، ولكن كل ذلك يجىء فى رفق، بل هى السليقة الكاملة تنطق، والفصاحة الفطرية تتكلم، وليس ذلك قولنا للمحبة فقط، ولكن للحقيقة وحق علينا أن نقول مقالة الجاحظ بعد وصف كلامه، وخشى على نفسه أن يقال أنه انبعث من المحبة، فقد قال: ولعل من لم يتسع فى العلم، ولم يعرف مقادير الكلام يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره، كلا والذى حرم التزيد عند العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ظل سعيه.

كبرت كلمة من يقول أننا تجاوزنا الحد فى وصفنا لبلاغة خطاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال تحديثه، وبلوغه من البيان الإنسانى أعلى مراتبه الذى لا يبلغ شأوه أحد، بل هو الحق الذى لا امتراء فيه، إننا لم تتجاوز الحد، ولكن لم نبلغه ولم نصل إليه.

١٣٢- وأنه من الحق علينا أن ننقل إلى القارئ ما قاله القاضى عياض فى وصف فصاحة محمد عليه الصلاة والسلام وبلاغته، فقد قال رضى الله تعالى عنه: «وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول، فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذى لا يجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتى جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها فى منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه فى موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله ... ومن تأمل حديثه وسيره علم ذلك وتحققه، وليس مع قريش والأنصار وأهل الحجاز، ونجد كلامه مع وطيفة الهندى وقطن بن حارثة العليمى والأشعث بن قيس، ووائل بن حجر الكندى وغيرهم من أقيال حمير، وملوك اليمن» «١» .

وإن هذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم كل لهجات العرب، وقد أتاه ذلك من إقامته بمكة المكرمة التى كان يلتقى فيها بقبائل العرب، فى موسم الحج، مع حرص على تعرفها، وذكاء


(١) الشفاء ص ٤٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>