للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مدرك لها، وتحصيل واع لكل ما يسمع، وحفظ لكل ما يجرى حوله. ولقد ذكر بعض الرواة أنه كان يعرف ألفاظا كثيرة من الفارسية، والرومانية، وإن لذلك شاهدا من كتبه للرومان، فقد جاء فى ذلك الكتاب:

«أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم البريسيين» ، وهذا لفظ رومانى استعمل فى معناه الدقيق، وهم العامة والزراع وغيرهم من الدهماء.

وإن تعلمه لهجات العرب وفوارق لغاتهم يدل على أن الله تعالى كان يعده لهذه الرسالة الإلهية العامة، ولقد ساق القاضى عياض شواهد من كتبه عليه الصلاة والسلام إلى همذان، ووائل بن حجر، ووازنها بكلام قريش فى الصدقات.

ثم يقول القاضى عياض فى الشفاء:

«وأما كلامه المعتاد وفصاحته المعلومة، وحكمه المأثورة، فقد ألفت فيها الكتب، ومنها ما لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة كقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» ، وقوله: «الناس كأسنان المشط» . «والمرء مع من أحب» . «ولا خير فى صحبة من لا يرى لك ما ترى له» ، «الناس معادن» «وما هلك امرؤ عرف قدره» . «والمستشار مؤتمن» .. «ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» وقوله «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» وقوله: «إن أحبكم إلى وأقربكم منى مجالس يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون» . وقوله: «ولعله كان لا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يبخل بما لا يغنيه» وقوله: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» ، ونهيه عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات» وقوله: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» ، و «خير الأمور أوسطها» ، وقوله: «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما» وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ، وقوله فى بعض دعائه: «اللهم إنى أسألك رحمة من عندك تهدى بها قلبى وتجمع بها أمرى، وتلم بها شعثى، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدى، وتزكى بها عملي، وتلهمنى بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمنى بها من كل سوء، اللهم إنى أسألك الفوز عند القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء» . هذا ما روته الكافة عن الكافة من مقاماته ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته ومخاطباته» «١» .

ولقد ذكر من بعد ذلك القاضى عياض عهوده عليه الصلاة والسلام التى كان يعاهد بها القبائل، والهدنات التى يهادن بها، فإنها بلغت من إحكام المواثيق، ودقة الشروط ما لا يصل إليها تحرير كاتب، ولا توثيق معاقد، فإنها بلغت مرتبة لا يقاس عليها، ولا تحاكي، وسبق فيها سبقا بعيدا لا يقدر قدره.


(١) الشفاء ج ١ ص ٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>