يغشاها، لا ينظر إلى كل ذلك على أنها مناظر جميلة، وزينات باهرة، بل ينظر فى دلالتها على الخالق، ولا ينظر إليها متعرفا سر الإضاءة فى الشمس، وإنما يتعرف منها سر الدلالة على المنشيء، والأرض والماء والزرع، والشجر والثمار. كل ذلك كان يستغرق تفكيره لا ليعلم كيف خلق، ولكن ليعلم من الذى خلق، وكلما أمعن بفكره تعرفا للخالق، واستدلالا عليه ازداد إيمانا به، وطلبا لرضوانه، واطمئنانا لنفسه.
اتجه إلى معرفة الخالق، وما يرضيه عاكفا على ذلك عكوف العابد فى صومعته، لا يطلب إلا إرضاء ربه، ولكنه لم يعلم ما يرضيه، ولا ما يكون نسكا له إلا ما توارثه العرب من حج البيت ومناسكه التى بقيت من عصر إبراهيم عليه السلام، ونزهت نفسه وقلبه ولسانه، حتى صار ربانيا بفطرته المستقيمة وقلبه السليم.
وكانت كل أعماله لإرضاء الله تعالي، فهو يخالق الناس بخلق حسن، لا يكذب، ويتصدق ويقدم للناس الخير، لأنهم عيال الله، وقد صار كل شيء فيه لله تعالي، وقد صار قلبه المعلق بالله تعالى الخاضع الخانع، لا يرى فى الوجود إلا الله تعالي، ولا يحسب أنه إلا القانت له، الخاضع، ولكنه يجهل الشكل الذى يرتضيه لعبادته، فصار كله لعبادته، قلبا ولسانا وعملا وخلقا.
وزهده فى الاختلاط كان يريه من الناس إفكا من عبادتهم للأوثان، ومن خمر يعاقرونها وميسر يلعبونه، وخصومات يفجرون فيها، وشحناء ليست من شأنه، ومجادلات ليست من غايته، وشعر يتبعه الغاوون، والكبر الأثيم الذى لا إثم فوقه، تقديسهم للأحجار، واتجاههم إلى تقديسها بدل تقديس الديان، كل هذا زهده فى الاختلاط.
ولذلك كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث عزوفا عن أن يغشى مجالس قريش فى سمرها، أو ما يزجون به فراغهم، إلا أن يكون جدا يوجب الخلق الكريم مشاركتهم فيه كما شاركهم فى بناء الكعبة المكرمة، وكما كان يحضر فى ندوتهم إذا جد الجد، وكما حضر حلف الفضول.
والسبب فى عزوفه عنهم أنه يبتعد عن مواضع يعزب فيها عن ذكر الله ويبتعد عن التفكير فى ذاته تعالت عن الشبيه، وتنزهت عن المثيل، وأنه يريد أن ينصرف الفكر فيه، والتفكير فى ذاته وإرضائه، خيرا من عبادة الحركات والمظاهر، فكانت حياته كلها لله تعالى.
ما كان يخرج من خلوته إلا لإسداء معروف، أو إطعام مسكين، أو إغاثة ملهوف، أو لإقراء ضيف عز عليه إقراء، وإن ذلك كله عبادة، لأنه ما يقصد إلا وجه الله تعالى، وإرضاءه لله تعالى، وأى عبادة أعلى من ذلك شأنا.