للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انتقل من بعد ذلك سلمان إلى خدمة أسقف صالح، كان يدأب على العبادة ليلا ونهارا، فأقام معه زمنا طويلا، ولما حضرته الوفاة استوصاه سلمان وقال له: «إلى من توصى بى، وبم تأمرنى؟ قال: بنى والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه فقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل فالحق به» .

لحق سلمان بصاحبه بالموصل، فوجده على خير عظيم، ولما حضرته الوفاة قال له: «إلى من توصى بى وبم تأمرنى: قال: يا بنى والله ما أعلم رجلا على ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين «١» » .

ولما ذهب إلى رجل نصيبين وحضرته الوفاة دله على رجل بعمورية سافر إليه، ووجده خير رجل وأقام عنده خير إقامة، واتجه إلى الاكتساب فاكتسب بقرات وغنما، ولما حضرته الوفاة قال له بمن توصى بى وبم تأمرنى. «قال أى بنى، والله ما أعلم أحدا أصلح على مثل ما كنا عليه من الناس امرك أن تأمنه ولكنه أظل زمان نبى، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين «٢» بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق به بتلك البلاد فافعل» .

وقد شد سلمان رحيله إلى وادى القرى، ثم إلى المدينة، إذ مر به نفر من تجار كلب، فقال لهم احملونى إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتى وغنيمتى هذه، فرضوا بهذه الصفقة، ولكنهم مكروا به وغدروا فما أن بلغوا به وادى القرى حتى ظلموه، وباعوه على أنه عبد إلى رجل يهودى، ولكنه أسلم نفسه لربه الذى طوف فى الافاق يبتغى الدين الحق الذى يريد أن يعبد الله تعالى على مقتضى شريعته، وترك العيش الرافغ فى ظل أبيه، وسار فى المهامه والقفار طالبا الهداية.

رأى النخلات التى وصفها له أسقف عمورية، وفرح إذ بيع من اليهودى الذى اشتراه إلى عم له من بنى قريظة، فحمله إلى المدينة.

وفى هذه الأثناء حيث كان يقيم هو بالمدينة كان محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد بعثه الله تعالى نبيا، وما كان يعلم سلمان رضى الله تعالى عنه من أمر ذلك شيئا، لأنه شغله الرق عن أن يتتبع أخبار من بشرت به الكتب، ونقله الأساقفة، وتحدث به الرهبان.

وقد هاجر محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبينا هو فى رأس عذق «٣» لمالكه يعمل به بعض العمل، إذ أقبل ابن عم لهذا المالك فوقف عليه يسب أهل المدينة من الأوس والخزرج، ويقول: «والله إنهم الان لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة المكرمة اليوم، يزعمون أنه نبى» «٤» .


(١) مدينة فى طريق القوافل من الموصل إلى الشام.
(٢) الحرة أرض ذات حجارة سود من أثر احتراق بركانى.
(٣) العذق هو النخلة.
(٤) سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢١٩

<<  <  ج: ص:  >  >>