١٩٢- كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فى العبادة، ومن وقت أن اطمأن إلى رزقه، ونظم تجارته فى مال خديجة بأن يعمل غيره تحت إشرافه، ولم يكن ثمة حاجة إلى خروجه بنفسه للتجارة، فلم يذكر أنه خرج بنفسه، بعد خروجه وهو فى الخامسة والعشرين من عمره.
وكلما تقدمت به سن الشباب ازداد نسكا واختلاء وانصرافا عن الملاذ والشهوات فى غير تحريم الحلال، أو إبعاد لطيب من طيبات، بل كان يأكل ويشرب فى غير سرف ولا مخيلة، كما بيّن فى شريعته التى أرسل بها رحمة للعالمين.
وقد اتخذ لنفسه شهرا من أشهر السنة يختلى فيه بغار حراء، وكان حراء نسكا للعرب فى جاهليتهم، كما جاء فى البداية والنهاية لابن كثير، فقد قال «وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج إلى حراء فى كل عام شهرا ينسك فيه، وكان من نسك قريش فى الجاهلية»«١» أى أنه كان من الأماكن التى تعتبرها قريش من النسك فى الجاهلية، ولعلهم كانوا يضيفونها إلى نسك الحج، وقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا خير مكان لعبادته، لأنه لا يطرق طول العام، ولم يكن كالبيت الحرام، إذ يطاف بالكعبة المشرفة فيه كل يوم، ويظهر أنه بمضى الزمان قد هجر اتخاذه نسكا، ولعله كان مما أضيف إلى مناسك من غير شريعة إبراهيم عليه السلام، وليس بحث هذا ذا جداء فى موضوعنا.
جاءت الصحاح بأنه كان عليه الصلاة والسلام يتحنث (أى يتعبد على الحنيفية السمحة) الليالى ذوات العدد، وكان يتخذ دائما شهر رمضان من كل عام يتزود لذلك، ويبتدى بالذهاب إلى البيت الحرام يطوف به، ويتصدق بالصدقات العظيمة ويطعم الطعام، ثم يذهب إلى غار فى جبل حراء، لم يكن فى سفحه، بل كان أعلى من ذلك. ولا يصل إليه قاصده إلا بمرتقى صعب، وليس بالسهل، والناظر إليه الان لا يجد الوصول إليه بغير شق النفس مما يدل على أن الله تعالى أعطى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بسطة فى الجسم، وقوة احتمال، ورغبة صادقة فى العبادة، لا يقوى عليها إلا أولو العزم من العباد.
حتى إذا أتم الشهر وهو رمضان عاد إلى بيته، وقبل أن يأوى إليه يمر بالبيت الحرام، فيطوف، ويتصدق بما بقى معه من زاد، ويطعم الطعام مما بقى له، ثم يأوى إلى خديجة زوجته الطاهرة.