للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسلم قال: «فجاءنى جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال اقرأ، فقلت ما أقرأ، فغتنى حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة، لما يأتى بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحا بهذا فى مغازى موسى بن عقبة عن الزهرى أنه رأى فى المنام، ثم جاءه الملك فى اليقظة. وقد جاء فى كتاب دلائل النبوة لأبى نعيم الأصبهانى أن ذلك شأن الأنبياء جميعا يأتيهم الوحى ابتداء فى المنام، حتى اذا تهيئوا للقاء الوحى عيانا، جاء إليهم. فقد نقل عن علقمة بن قيس أنه قال:

«إن أول ما يؤتى به الأنبياء فى المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحى» «١» .

وهكذا ننتهى إلى حقيقة ثابتة متفقة مع مجموع النقول، وتتلاقى مع العقول، وهى أن الالتقاء بالروح القدس ابتداء فى المنام، ثم لما ألف محمد عليه الصلاة والسلام الرؤيا المنامية الصادقة، ويظهر أنها فى وضوحها وجلائها تشبه رؤية اليقظة إذ كانت تجىء مثل فلق الصبح كما أخبرت أم المؤمنين عائشة، حتى إذا كان الأنس بروح القدس، وامتلاء النفس بالروحانية كانت المشاهدة فى اليقظة، لأن ذلك مقام خطير عظيم، لا تقوى عليه النفوس إلا بعد أن تصقل صقلا روحيا.

وقد يقول قائل: إن كلام أم المؤمنين عائشة يستفاد منه أن الميل إلى الاختلاء للعبادة كان بعد الرؤيا الصادقة، وقد يوهم ما قلنا بأن الصفاء النفسى بالعبادة قد سبق الرؤيا الصادقة.

ونقول فى الإجابة عن ذلك بأن الصفاء الروحى كان فى قلب النبى عليه الصلاة والسلام من يوم مولده، وهو فى المهد صبيا؛ فإذا كان عيسى عليه السلام تكلم فى المهد صبيا، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام قد أدرك فى المهد صبيا، وإن الصفاء الروحى قد لازمه طول حياته، فقد كان فى صفاء ولابد أن يستمر إلى شبابه الباكر، ثم إلى ما بعده، فالرؤيا الصادقة كانت من إرهاصات الرسالة، وكانت من الوحى، ثم كانت فى المرحلة الأخيرة منها، وحيا بما يراه من خطاب الوحى بالأمين جبريل، وهى ما ذكره ابن إسحاق.

وإذا كان لنا أن نستفيد من تقديم الرؤيا الصادقة على الخلاء، فكان تحبيب الخلاء له ثمرة لرؤيا صادقة تكررت حتى كان منه الاختلاء بنفسه.

ولقد قلنا من قبل أنه كان يتعرف البقية من ديانة إبراهيم ليصلى، ونحن فى هذا الموضوع من بحثنا عثرنا على الضوء الذى نهتدى به فى تعرفه للصلاة على ديانة إبراهيم، وظننا من قبل احتمال أن يكون


(١) سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>