والدعوة تسرى سريان الماء العذب فى خفاء العشب الأخضر والزهر الأنضر، ولكن لابد أن تستعلن ليعلمها القريب، وتكشف فى وضح النهار المشرق، ويسرى علمها، فالخفاء مهما يكن لا يخلو من إبهام.
ولذلك لما سرت الدعوة المختفية المتربية فى خلية نمائها، طلب الله تعالى إلى رسوله أن يعلنها، فقال امرا له وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ «١» .
تقدم النبى محمد عليه الصلاة والسلام وجمع بنى هاشم وبنى عبد مناف، وغيرهم من بطون قريش، جمعهم فى الصفا، وقال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبا، ثم ساق لهم ما يدعوهم إليه، ولنترك الكلمة لرواية البخارى فى صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما، فقد قال: لما نزلت الايات وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ.
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ صعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادى، يا بنى فهر، يا بنى عدى، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الذى لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا، لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا. قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فنزل قوله تعالى:
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. وهذا يدل على أن كبير المعارضة فى تلك الدعوة المباركة هو أبو لهب عم النبى عليه الصلاة والسلام، لكيلا يعلم الناس أنها عصبية أسرة أو بطن من قبيلة، إنما هى رسالة الله تعالى إلى خلقه.
وروى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه قوله تعالى:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ.. الايات وقف وقال: يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سلينى ما شئت من مال، لا أغنى عنك من الله شيئا. وهذا الحديث مخرج على شرط البخارى، وروى مثله الإمام أحمد فى مسنده.
٢١٧- ولقد جاء فى التاريخ الكبير لابن الأثير: لما أنزل الله تعالى على رسوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ اشتد ذلك على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وضاق ذرعا، فجلس فى بيته كالمريض،