عندما سمع النجاشى هذا ضرب بيده على الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود.
والبطارقة حاضرون فتنافروا حوله حين قال ما قال: فقال: وإن نخرتم.
ثم التفت إلى المسلمين من أصحاب محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ما معناه: اذهبوا فأنتم الامنون، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى جبلا من ذهب وأنى اذيت رجلا منكم.
انتصر النجاشى الهمام للحق وأهله- ودخل فى الإسلام- كما تدل على ذلك مكاتبته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم التى نقلناها من قبل، وقد رد على قريش هديتها، كما رد مكيدتها فى قومها وعشيرتها.
ولكن الهدية فعلت فعلها فى البطارقة، ويظهر أنهم بعد إسلامه تامروا مع بعض رجال الحبشة، فخرج عليه رجل منهم فكان المسلمون فى فزع، وتقول السيدة أم المؤمنين أم سلمة:«فو الله ما علمنا حزنا أحزننا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشى، فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشى يعرفه» .
وقد أخرجت أم سلمة والزبير بن العوام الذى كان من المهاجرين، وقد عاد الزبير يحمل البشرى بانتصار النجاشى على خصمه، ففرح المهاجرون فرحة ما فرحوا مثلها.
٢٦٤- استقام الأمر للمهاجرين فى الحبشة، ولم يذكر التاريخ أكانوا يتولون عملا فيها أم كانوا فى ضيافة النجاشى، لم يذكر التاريخ شيئا من ذلك، لأن مؤرخى السيرة النبوية الطاهرة ما كانوا يعنون إلا بحال المسلمين. وحال الإسلام، وتحمل المسلمين للأذى فى سبيل عقيدتهم، يفصلون فى ذلك ما يشاء طالب الحقيقة أن يعرفه، ولكنهم ما كانوا يعنون بالأعمال المادية من صناعة ومكاسب! ولكن أردنا أن نعرف ما طواه التاريخ ولم يذكره، نتعرفه من صور الرجال الذين هاجروا، فلابد أن نتصور من صورهم أحوالهم.
لقد كان من بينهم ذو النورين عثمان التقى الطاهر، وهو مع ذلك التاجر الماهر، وقد خرج ومعه بعض ماله غالبا، وما كان ليترك عمله فى التجارة حتى تأكل النفقة ماله، ولم يثبت فى التاريخ أنهم كانوا فى ضيافة النجاشى، لأنهم كانوا يتزايدون فى الهجرة ولا ينقصون، وإذا كان لابد من فرض فى هذا، فهو أننا نتصور أنه كان يعينهم ليتمكنوا من أعمالهم الكاسبة التى تدر عليهم ما يكفيهم بالمعروف من غير إسراف، ولا تقتير.