ازداد غيظهم، واشتد الأمر عليهم بسبب حقدهم، وتضاغنوا فيما بينهم، وتذمروا، وتحاضوا على وجوب إيذائهم، ورأى أهل الروية منهم أن يذهبوا إلى أبى طالب مرة أخرى، ولكن بوجه أعنف، وبلسان أجف.
اجتمعوا فقال قائلهم:«يا أبا طالب إن لك سنا ومنزلة وشرفا فينا، وإنا قد استأنيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر علي هذا من شتم ابائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب الهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك فى ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.
فى هذه المرة كان التهديد لأبى طالب بإعلان عداوتهم، وقد أزالوا كل الحجز فى القول، ولم يراعوا سنا ولا شيخوخة، ولا شرف منزلة كما ذكروا فى الأولى، ولا شك أن تغير لهجة القول كان له أثر فى نفس أبى طالب، وأحس بضيق فى الأمر، وإن لم يتبرم من حماية حبيبه ابن أخيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه أراد أن يعرض عليه ما أصابه من ضيق، ويشركه فى أمر قومه الذى تفاقم، فقال له: يابن أخى إن قومك قد جاؤنى، فقالوا كذا وكذا فأبق على وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر مالا أطيق.
لم تضعف عزيمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد من الله تعالى والذى لا يرجو النصرة إلا منه، وإن كان يرغب فى أن يشعر بأنه فى عزة من أهله، تألم، لا خوفا من الأذى، ولكن لظنه تخلف عمه الحبيب عن نصرته، وهو فى ميدان الجهاد والمناضلة إذ ظن أنه خاذله ومسلمه، وعلم أنه ضعف عن نصرته.
عندئذ قال مقالة أولى العزم من الرسل: «يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته» ثم استعبر فبكى ثم قام، وما كان استعباره ضعفا، ولكن لأنه يرجو من عمه وحبيبه ألا يسلمه ولا يخذله.
أدرك أبو طالب الكريم أنه أسرف على ابن أخيه فى ذكر ما كان من قول وفد قريش، وأنه كرثه بذلك. فلما ولى ناداه: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب العظيم:«اذهب يا ابن أخى، فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا» .
تواردت الأخبار على قريش، وعلموا أنه لا سبيل لأن يصلوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام ليقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه وأبو طالب مانعه، ولكن حيلتهم لم تنته، والرغبة ولو اثمة لا تسكت عند الصدام، ففكروا، وانتهوا إلى أمر غريب، وإن لم يكن ظاهر الغرابة عند العرب فى جاهليتهم.