للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(د) وإن تاريخ العرب المحفوظ أن العرب العدنانية لهم تاريخ ثابت موصول تلقاه أهل العقول بالقبول، وما يتلقاه العلماء بالقبول لا ينقض بمجرد الشك، بل لا يرفض إلا بدليل يناهضه، وبينات تقاومه، ولا يقاوم بمجرد الشك وإلا ضاعت الحقائق، وضلت الأفهام، وظواهر الأحوال شاهد يؤخذ به، حتى يقوم الدليل على خلافه.

(هـ) وأن الزعم بأن أولاد إسماعيل وثنيون، وإبراهيم عليه السلام كان مواحدا، فكيف يلتقيان، أو القول بأن العرب وثنيون، والمواحد لا يمكن أن يكون أبا للوثنيين، منطق فاسد، لأن مؤداه أن من يكون مواحدا يجب أن تكون سلالته كلها من الأولاد الصلبيين إلى اخر الذرية، ولو كانوا فى الطبقة المتممة للمائة، مواحدين، وذلك كلام باطل، فإنه قد ينحرف الأبناء عن وصايا الاباء، وإذا كان ذلك غريبا فى الطبقة الأولى، أو ما يكون قريبا منها، فإنه لا يكون غريبا فى الطبقات البعيدة من الذرية.

وإن إبراهيم عليه السلام قد طوف فى الافاق داعيا إلى التوحيد محاربا للوثنية، وترك أثره واضحا فى العرب وخصوصا ذريته، فقد كانت ذريته مواحدة، سالكة سبيل الحق فى عبادتها، ولكن القلوب إذا تقادم العهد قد تنحرف شيئا فشيئا حتى تصل إلى الوثنية، فالوثنية، عارضة على العقل العربى، وخصوصا ذرية إبراهيم عليه السلام، فإن الوثنية لم تكن أصيلة فيهم، ومع ذلك كان فى وثنيتهم بقايا من تعاليم إبراهيم عليه السلام، وما كانوا يؤمنون بأن أوثانهم لها قوة الخلق والإنشاء، كما كان عند المصريين القدماء، وكما كان عند اليونان والرومان، بل كانوا يقرون بأن الخلق والتكوين لله تعالى واحده، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «١» ، ويقولون ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «٢» .

وإن تفكير ذلك الكاتب المستشرق فيه غرابة من حيث المنهاج العلمى المستقيم من ناحية أمرين:

أولهما: أنه من الاستهانة بأى منهاج عقلى أن يثير عالم الشك من غير أى مسوغ للريب من أمور تقترن بالأمر الجازم المقطوع به، فإن ذلك إثارة لطريقة السوفسطائيين الذين يشكون فى حقائق الأشياء شكا مجردا من غير أى باعث علمى، أو من غير أى بينة تسوغ الشك، حتى يحارب اليقين، ولكن هذه الأمور البدهية نسيها ذلك الباحث إن صح هذا الوصف له، وما أنساه إلا شيطان التعصب المردى الذى ينزل من علياء العلم إلى مهاوى العمى. فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «٣» .

ثانيهما: أن من الحقائق الاجتماعية والنفسية، أن العقائد فى الناس تتحول وتتغير، ويجرى عليها نظام التغير، ويستمر فى طريقه، ما لم يكن هناك كتاب ثابت يهدى إلى الحق، ويرشد الضال فيهتدى، ويكون ميزانا يمنع الانحراف.


(١) سورة العنكبوت: ٦١.
(٢) سورة الزمر: ٣.
(٣) سورة الحج: ٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>