يتركوها رهبا، ولا بد للحق في هذه من صولة تكف أذى الباطل، أو على الأقل تجعل الباطل يتردد عند إنزال أذاه، وأنه إن لم يخش صوت الضمير، فإنه يخشى صلصلة السيوف. فكانت هذه السرايا، وتلك الغزوات مظاهر من صولة الحق ليتركوا الدعوة إلى الحق تسير في سبيلها، ولتستيقظ ضمائر كانت نائمة، فمن الضمائر ما لا يستمع لصوت الحق الوادع الرفيق، ولكنه يستيقظ إذا رأى جلجلة القوة، فيخفف من حدة الأذى، ويتبع ذلك أن يسير في طريق الهداية إن لم يكن الضلال قد كتب عليه.
ب- وإنه إذا لم يكن قتال، فقد كان هنا دراسة للمؤمنين في البلاد العربية يتعرفون وهادها، وجبالها، ويدرسون مجاهلها، فيعرفها من لم يكن يعرفها، ويلتقون فيها بالأعراب في أخبيتهم، ومساكنهم، وفي ذلك إعلان الدعوة لمن لم يكن يعلمها، وتوجيه العقول إليها وتوضيحها وبيانها.
وإن في هذه الجولات التى كان يجولها أولئك المؤمنون في السرايا التى بعث بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تعرفا لمساير عير قريش، وما كانت إلا للتجار الأغنياء فيهم، فما كان للشعب فيها إلا النزر اليسير، وما كانت تلك البعوث التى تتبع عير قريش لأخذها، إلا ليكون هذا بدل ما اغتصبوا، وقد قلت من قبل، إن ذلك لم يكن حصارا اقتصاديا، كما يجرى في عبارات الكاتبين والمحاربين والسياسيين في هذا الحصار. كالذى تجرى كلماته في عصرنا يقصد به التضييق على الأمة التى يعادونها في موارد رزقها، فلا يرسل إليها طعام، ولا المواد الضرورية للحياة والعمران، بحيث يعم الضيق الشعب كله، وما كان ذلك في سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا في غزواته إنما كان الاتجاه إلى محاربة التجار الذين كانوا يقومون بالتجارة، وجلهم أو كلهم ممن حاربوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واشتركوا في إيذاء أصحابه، وإخراجهم من أموالهم وديارهم، فما كان فعله عليه الصلاة والسلام حربا اقتصادية تعم البرىء والسقيم، بل هو مصادرة لمال ظالم اغتصب أموال المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله كما تلونا الآيات من قبل ذلك.
ج- وإن غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع ما فيها من نشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة كان فيها تأليف للقلوب، ففيها عقدت اتفاقات على النصرة والإيواء، ففى غزوة الأبواء (ودان) اتفق عليه الصلاة والسلام مع بنى ضمرة على أن ينصروه إذا دعاهم إلى النصرة وينصرهم إذا دعوه.
وفي غزوة العشيرة عقد مع بنى مدلج، وحلفائهم من بنى ضمرة اتفاقا على المناصرة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم ووثقه بكتاب كتب، كما نقلناه من قبل من الروض الأنف للسهيلى.