وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يغز لحرب، فقد غزا قلوبا، وألفها لتكون قوة لأهل الحق، وليدخل الإيمان إلى قلوبهم، لأن تالف القلوب هو السبيل إلى دخول الحق إليها لكيلا تنفر، فتعمى.
ويلاحظ أن هذه البعوث كلها كان جنودها من المهاجرين، فأمراؤها من المهاجرين، وغزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان الجنود فيها من المهاجرين، ولم يكن فيهم من الأنصار أحد، فلم يندب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحدا من الأنصار إلا في بدر، ولماذا كان ذلك! لا بد أنه كان مقصودا منه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يجيء إذا اتفاقيا من غير قصد له بالذات.
والجواب عن ذلك:
أولا: إن المهاجرين هم الذين أوذوا في أبدانهم وكراماتهم من أولئك المشركين، فهم أشد الناس رغبة في القصاص ممن آذوهم والقصاص شريعة لحكمهم، فكانوا أولى بلقاء قريش من غيرهم، ولأنهم هم الذين استضعفوا وأراد المشركون إذلالهم، فكانوا في لقائهم بالمشركين وفرارهم منهم أشد تبيينا لبيان أن الحق قد علا، وأنهم مكن لهم في الأرض، وإن ذلك يكون أروع وأوقع، وماذا تكون حال الصناديد من قريش إذا رأوا عمار بن ياسر وقد أوذى هو وأبوه وماتت أمه تحت حر العذاب، حتى قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:«اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ، فماذا يكون وقع ذلك في نفوس الغلاظ إذا رأوا عمارا العملاق واقفا لهم بتمكين الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: إن الذين أخرجوا من أموالهم وديارهم هم المهاجرون، فكانوا أحق الناس بأن يطالبوا بمالهم الذى اغتصب، وديارهم التى خربت، وأن يكفوا عن أهليهم وضعفائهم الذين لم يهاجروا شر أولئك العتاة أو يعطوهم وبال أمرهم جزاء بما اكتسبوا.
ثالثا: وهو عمدة الأسباب وقوتها- أن عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان على الإيواء والنصرة وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وذرياتهم، ولم يكن في ذلك النص على أن يخرجوا معه في حرب، وإن فهم ضمنا أنهم يكونون معه في الحرب والسلم، فلم يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخرجوا معه في غير ما نص عليه العقد نصا صريحا لا تأويل فيه، ولذا لم يدعهم إلى الخروج معه في هذه الغزوات وتلك السرايا، وكان في المهاجرين غناء بالنسبة لهذا الغزو المحدود.
ولذلك لما جد الجد، وجاء جيش كثيف من المشركين عدته تجاوزت الألف استشارهم، لتكون الإجابة رضا بأن يشتركوا في الحرب، وتلك الاستشارة كانت عند الإقدام من قريش برجلها وعتادها وفرسها، فكانوا عند رجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم، وعلى ما دفعهم إليه إيمانهم، وهو أوثق العهود.