«يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح «١» يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم» .
سمع حكيم بن حزام ذلك القول، ومشى في الناس، فذهب إلى عتبة بن ربيعة فقال له: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل إلى أمر لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر، قال:
وما ذاك يا حكيم، قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى (أى الذى قتل في سرية عبد الله بن جحش) قال: قد فعلت أنت على بذلك. إنما هو حليفى، فعلى عقله.
بعد ذلك مباشرة قام عتبة بن ربيعة خطيبا، وقال:
يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه أخيه يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم، ولم تتعرضوا منه ما يريدون.
تسامع الجيش بذلك، ولكن كان أبو جهل حامل الحطب يريدها ويدفعه الحسد، فحرض عامر ابن الحضرمى أخا عمرو الذى قتله أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على المناداة بثأره فصرخ واعمراه. فحميت النفوس واشتد الناس واجتمعوا على ما هم عليه من الشر.
وننتهى من هذا إلى أن إرادة الحرب كانت ضعيفة مترددة عند قريش وفي جيشها، إذ زال باعثها وداعيها وتردد ذوو الرأى فيهم، ومنهم من تنادى بالرحم ومنهم من أفزعه حال أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإرادتهم الموت في سبيل الله سبحانه وتعالى.
فكانت إرادة القتال غير ثابتة، وقوة الجيش تبتديء بالعزمة والإرادة، وما كان من بعضهم إلا انفعالة الحقد، وهى إن أجدت في الابتداء والتحريض لا تستمر عند اللقاء، وعند ما تعض الحرب بنابها، هذه حال جيش الباطل يبدو التخاذل في صفوفه، ووراء التخاذل والتردد الهزيمة لا محالة.
وإنا نقول إن رحمة الله سبحانه وتعالى بأهل الإيمان أن جعل جيش الباطل يحمل في نفسه ذرائع انهزامه، وعوامل خذلانه.
(١) النواضح: الإبل التى يستقى بها الماء، أو تحمله.