للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونقول في الجواب عن ذلك، إن قمع أعداء الدعوة الدينية لا يتنافى مع الرسالة، فموسى عليه السلام وهو من أولى العزم من الرسل، قد قتل بيده، وقاتل، ودعا بنى إسرائيل إلى القتال، وما تنافى ذلك مع رسالته الإلهية التى نزلت بها التوراة، وهى كتب العهد القديم المقدسة عند اليهود والنصارى معا.

ويحسبون أن الرحمة النبوية تمنع القتل والقتال، ونقول في ذلك إن القتل المشروع يكون بباعث من الرحمة، فليست رحمة النبوة انفعالة رعناء تكون على موضع البرء والسقم، إنما رحمة النبوة تكون بالكافة، ومن الرحمة بالكافة أخذ المذنب بذنبه، ومنع الفساد في الأرض، قال الله سبحانه وتعالى:

وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة- ٢٥١) والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة» ، وملحمته نابعة من مرحمته، وكثير من العفو يكون مشتملا على أقسى العذاب، وهو العفو عن الجانى الذى لا رجاء في صلاحه.

والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد اشتملت شريعته على العفو في الأمور التى لا يعود العفو فيها بالشر على الجماعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل- ١٢٦) . فالصبر عن أخذ الجانى بجريمته إنما يكون في الاعتداء على الآحاد الذى لا يتعدى الأمر فيه إلى الجماعة، وقول الله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ إنما هو في الأمور الشخصية التى لا يعود ضررها على الكافة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت- ٣٤: ٣٦) وهذا واضح أنه في الأمور التى تمس الشخص ولا تصل إلى الجماعة، وكلام النصارى الذى ينسبونه إلى المسيح عليه السلام إنما هو في الأمور التى لا تمس إلا الشخص. وإذا فهموه على أوسع من ذلك، فلكل شرعة ومنهاج، والله ولى الرشاد.

<<  <  ج: ص:  >  >>