للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وانظر إلى أبى سفيان الذى كان من أعلى قريش عندما سأله هرقل أجاب بالصدق والأمانة، وإن كان صدقه حجة عليه، ومعطيا للنبى صلّى الله عليه وسلّم قوة، واستعلاء بدعوته ورسالته، ويقول أبو سفيان وهو على الشرك: «لولا أنى أخشى أن تحفظ عنى كذبة فى العرب لكذبت» .

٥٧- ولماذا كان الأنبياء لا يكونون إلا من كورة عرفت بشرف النفس وعلو المحتد، وإن تولدت الرفعة من غير كبرياء، واحترام النفس من غير استعلاء. ذلك لأن الرسالة تحتاج إلى دعوة قوية لا يرنقها كدرة التعييب، أو عدم الثقة، أو نقص فى شرف النفس، أو رميه بالرذيلة ابتداء، وإن كان هو فى ذاته كاملا.

إن النبى الذى ليس فيه رفعة، ولم يعرف بأنه من عشيرة ذات تقاليد فاضلة، كان أول ما يبادر به هو الرد، لعدم شرف أسرته، وإنما نجد النبيين كانوا يعيرون بأن أتباعهم من أراذل القوم، لا من أشرافهم، ولا من ذوى النسب، ويتخذون ذلك ذريعة لرد الدعوة، وإن كانوا فى ذلك ظالمين، وإن رد قوم نوح أبى الإنسانية الثانى ليبين هذا، فقد قال تعالى عنه وعن قومه الذين ردوه فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ، وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ. قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها، وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ. وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ «١» .

إن اعتراضهم على أن الذين اتبعوا نوحا عليه السلام هم أراذلهم اعتراض ظالم، ولكن الله تعالى أرحم بعباده من أن يأتيهم بنبى مغمور فى أسرته، منكوب فى أمر أمته، مرذول ابتداء عند قومه، فيبادرون بعدم تصديقه، ويجاهرون ابتداء بمخالفته، ويصرون، ويأخذون حجتهم من حال عشيرته وما يألفون، وإن التأثير فى الأقوام لا يكون بإكراه النفوس على عكس ما يبدولها، وما تبادر برده، لأن المبادرة بادى الرأى بالرد تجعل النفس تبتديء بالانحراف عن الخط المستقيم الذى تدركه العقول، وإذا انحرفت زاوية التفكير بأمر منفر بادى الرأى، فإنه يستمر فى خط الانحراف ولا يرجع إلى الحق إلا بعسر، وإنه كلما استطال خط


(١) سورة هود: ٢٧- ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>