للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الانحراف انفرجت الزاوية، ويصعب التلاقى من بعد، ورضى الله تعالى عن على كرم الله وجهه إذ يقول: «إن للقلوب شهوات، وإقبالا وإدبارا، فإن القلب إذا أكره عمى» ودعوات الرسل للهداية، وليست للعماية.

٥٨- ولا شك أنه يجب أن يكون للرسول صلّى الله عليه وسلّم منعة من قومه، لأنه يبادر الناس بالمجاهرة بغير ما يعلمون، وبغير ما يعتقدون، ويصدع مفاجئا بما لا يريدون، وأنهم بلا ريب يجدون أنه لا يدفع ما يجئ على غير رغبتهم بالحسنى، بل بالمقاومة الحقيقية القوية، وإذا لم يكن له منعة من قومه يقتلونه فجر دعوته قبل أن يصبح صباحها، أو يكون لها ضوء فى المجتمع ولو كان ضئيلا، فإنه من بعد يكون نورا، ولو أطفئ النور عاش فى ظلام لا يضئ أبدا، وانظر إلى قصة قوم شعيب، إذ أنه لم يمنعهم من أن يقتلوه إلا رهطه، فقد قالوا فيما حكاه القران الكريم عنهم مما تلونا.. وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ «١» فلو كان الرسول فى غير رهط يمنعه، وفى غير منعة تدفع أعداءه لماتت دعوته فى مهدها.

وما لنا نغوص فى الماضى قريبا كان أو بعيدا، ونحن بين يدى حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ أن قريشا عندما صدع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر ربه، عارضته، ولجت فى المعارضة، ولما لجت فى المعارضة ساورتها نزعة الشر لقتله، وما كان يمنعها إلا أسرته، وشرف هذه الأسرة، ومكانتها عند العرب، وخوفها من أن تبادر بالثأر، ودفع العار، حتى تمكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يخرج بدعوة الحق من الفجر الذى يشق الظلام إلى الصباح المشرق المنير، بل إلى الضحى الذى يملأ الوجود ضياء، عندئذ قيض الله تعالى من يمنعه، وقد وقفت الدعوة تناضل عن نفسها، وترد كيد الكائدين.

٥٩- وقد يقول قائل إنهم إن لم يستطيعوا النيل من شخصه، فقد نالوا ممن يتبعونه، ووقفوا محاجزين دون أن تصل دعوته إلى الضعفاء، فلم يمنعهم مكانه فى أسرته من أن ينالوا من صحابته، ويعوقوا رسالته، وقد مات فعلا بعض الضعفاء من الصحابة تحت حر العذاب.

ونقول إن هذا دليل على أنه لو كان صاحب الدعوة كأولئك الضعفاء لم يوجد من يمنعه- لقتلوه، وقالوا إنه أصلها فلو قتلناه لزالت، فيستكلبون عليه وتموت الدعوة فى مهدها، فيعجلون بوقفها.

وإنه يلاحظ أن الأذى الذى كان ينزله المشركون من قريش بالمؤمنين كان يتفاوت مقداره بمقدار قوة أسرهم، ومكانتهم فى النسب الذى كان موضع فخارهم، فكان لأبى بكر وعثمان، لون ما كان لال ياسر، وال خباب بن الأرت، وكان لهؤلاء الذين لا ناصر لهم أشد ما يلاقى الإنسان من أخيه الإنسان،


(١) سورة هود: ٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>