اتجه خالد إلى الانحياز تمهيدا لانسحاب منظم، وفى هذا الوقت ابتدأت قوات الروم بتخاذل بعضها من العرب، وبعضهم انضم إلى خالد عند انسحابه. يحكى ابن إسحاق أنه كان من حدس كاهنة، حين سمعت بجيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا، قالت لقومها من حدس، قالت لهم أنذركم قوما خرزا (أى مبصرون مدركون) ينظرون شزرا، ويقودون الخيل تترى، ويهريقون دما عكرا. فأخذوا بقولها واعتزلوا من بنى لخم، وكان من الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة، فلما انصرف خالد بالناس انصرفوا معه وعادوا قافلين إلى أرضهم.
فالجيش الرومانى، لم يكن متماسكا، وإن كان كثير العدد، لتعدد الأجناس فيه، فلم تغن كثرتهم عنهم شيئا، ونجا المسلمون منهم، ونجواهم بأنفسهم، وإن جرحوا جرحا شديدا.
عندما رأى خالد كثرة الكافرين، كما ذكرنا، أخذ يبدل فى مواقف جيشه، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والصدر خلفا والخلف صدرا فظنوا أنه قد جاءه المدد، فلهذا أنزل الله تعالى فى قلوبهم الرعب من لقاء المسلمين فاثروا النجاة بأنفسهم، ولم يتبعوا جيش المسلمين فى تراجعهم، ورضوا من الغنيمة بالإياب، وأخذ خالد بجيش الإيمان، حتى عاد إلى المدينة المنورة سالما به، لم يفقد فى هذه المعركة إلا اثنى عشر قتيلا منهم الأمراء الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنهم جميعا، وتسعة معهم، فكان عدد القتلى اثنى عشر قتيلا.
ولكن لم يتعود أهل المدينة المنورة أن تعود إليهم جنودهم من المعركة، حتى فى أحد بقيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد نال المشركون منهم نيلا وجراحا فلم يعد الجنود من المعركة فارين أو شبه فارين، بل كان الجمع الذى أصيب بالجراح قد أخذ يكر وراء المشركين كرا، وتبعهم إلى حمراء الأسد راجعين فارين من تجدد اللقاء، ورضوا بالإياب.
لم يعجب أهل المدينة المنورة صنيع الجيش الذى قاده القائد المدرك بالانحياز ثم الانسحاب، لأنهم لم يتعودوه، وسموهم الفرارين، وأخذ الصبيان يحثون التراب على وجوههم، وقد خرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستقبلا فأمر بتنحية الصبيان إلا أولاد جعفر بن أبى طالب فضمهم إليه، وقال إنهم الكرارون، أو العكارون، كما جاء فى بعض الصحاح والسنة، وسماهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم متحيزين إلى فئة، فهو فئة المسلمين، وكان ذلك تطبيقا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا