ولما ارتحلوا وأخذوا يستقيمون على الطريق بعد هذا الفتح المبين، والنصر المؤزر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«آيبون عابدون، لربنا حامدون» .
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع على ثقيف، فقال نبى الرحمة:«اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» .
ويروى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم اتبعه فى أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة المنورة مسلما، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: كما يتحدث قومك أنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان فيهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان حقيقة مجابا مطاعا فيهم، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف عليهم من مكان مرتفع يدعوهم إلى الإسلام رموه بسهم فقتل، فقال رضى الله عنه: كرامة أكرمنى الله تعالى بها، وشهادة ساقها الله تعالى إليّ، فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنونى معهم فدفنوه.
ويظهر أن قتلهم عروة، وهو المحبب فيهم، قد أثر فى نفوسهم، وقد رأوا أن العرب قد دخلوا فى طاعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم وحدهم الباقون على عدائه، ولا قبل لهم به، ولا بحرب من حولهم من العرب الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا.
لذلك أجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فكلموا عبد بن ياليل، وكان فى سن عروة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يجيبهم، وقد رأى ما صنعوه مع عروة، وكانوا هم الذين أرسلوه، كما يحاولون إرساله، فخشى أن يفعل به ما وقع بصاحبه، فقال لهم عبد ياليل: ابعثوا معى وفدا فبعثوا معه ستة، ووصلوا المدينة المنورة، فلقيهم المغيرة بن شعبة، ولنترك الكلام فيما صنعه الوفد، وما قاله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكلام فى الوفود من بعد ذلك فى وقتها من الزمان.
وإن كلامنا الآن فى وفد ثقيف كلام مبتسر، ذكرناه لنبين أن ترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير عاجز، كان لحكمة عالية ألانت قلوبا بعد شماسها، حتى إنه يروى أبو داود: أن العيلة الأحمسى واسمه صخر، أخذ على نفسه عهدا وذمة أن يحمل ثقيفا على مبايعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، وقد استطاع أن يلين قلوبهم وأن ينزلهم على حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد كتب صخر هذا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له:«أما بعد فإن ثقيفا قد نزلت على ذلك يا رسول الله، وأنا مقبل بهم، وهم فى خيلى» .