فثبت بهذا أن حجة أبى بكر على حج الإسلام، مع أنه أيضًا حج فى ذى الحجة، وكانت العرب لا تتوخى بحجها إلا ما كانت عليه من النسئ، يحلونه عامًا ثم يحرمونه عامًا آخر، ودليل آخر أنه حج حجة الإسلام بعد نزول فرضه؛ بعثته عليه السلام لعلى فى أثره لينادى المشركين ببراءة، ولينبذ إليهم عهدهم بكتاب الله، وكذلك أمره ألا يطوف عريان ولا يحج مشرك؛ لقوله تعالى:(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)[التوبة: ٢٨] وفى هذه السورة ذكر النسئ وذكر شرائع الحج، وهذا يدل أن الحج لازم للمسلمين، ليس على الفور ولا على وقت معين كالصلاة والزكاة والصيام، بل فى العمر كله مرة متى وجد إليه سبيلا، لا يتعلق بوقت دون وقت؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يحج بعد فور نزول فرض الحج عليه، بل أخر ذلك إلى عام آخر. قال ابن خواز بنداد: وقد اختلف فى هذه المسألة أصحاب مالك: وأصحاب أبى حنيفة، وأصحاب الشافعى على قولين، فقال مالك: إذا كانت المرأة صرورة أجبر الزوج على الإذن لها فى الحج ولا تعجل عليه وتؤخر عامًا بعد عام. قال: وسئل سحنون عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك سنين كثيرة مع قدرته على الحج، هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته؟ قال: لا يفسق وإن مضى من عمره ستون سنة يؤخر فيها الحج وهو قادر على فعله، فإذا جاوز الستين سنة فسق وردت شهادته، قال: وتحصيل مذهبنا أن الحج تأخيره مع القدرة عليه، ورأينا أصحابنا العراقيين من المالكيين يقولون: هو على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة، وهو قول أبى يوسف والمزنى، وروى عن محمد بن الحسن أنه على التراخى، وكذلك روى عن أصحاب الشافعى القولان جميعًا.