فسألت بعض شيوخى عن معنى هذا الحديث، فقال لى: إن الكذب الذى أباحه (صلى الله عليه وسلم) فى الحرب هى المعاريض التى لا يفهم منها التصريح بالتأمين؛ لأن من السنة المجتمع عليها أن من أمن كافرا فقد حقن دمه، ولهذا قال عمر بن الخطاب: يتبع أحدكم العلج حتى إذا اشتد فى الجبل قال له: مترس، ثم قتله، والله لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا قتلته. وقال المهلب: موضع الكذب من هذا الحديث قول محمد بن مسلمة: قد عنانا وسألنا الصدقة؛ لأن هذا الكلام يحتمل أن يتأول منه أن اتباعهم له إنما هو للدنيا على نية كعب ابن الأشرف، وليس هو بكذب محض بل هو تورية ومن معاريض الكلام؛ لأنه ورى له عن الحق الذى اتبعوه له فى الآخرة، وذكر العناء الذى يصيبهم فى الدنيا والنصب، أما الكذب الحقيقى فهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وليس فى قول ابن مسلمة إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وإنما هو تحريف لظاهر اللفظ، وهو موافق لباطن المعنى. ولا يجوز الكذب الحقيقى فى شيء من الدين أصلا، ومحال أن يأمر بالكذب وهو (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وإنما أذن له أن يقول ما لو قاله بغير إذن النبى (صلى الله عليه وسلم) وسمع منه لكان دليلا على النفاق، ولكن لما أذن له فى القول لم يكن معدودًا عليه أنه نفاق، وسيأتى فى كتاب الصلح زيادة فى هذا المعنى فى (باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس) إن شاء الله تعالى.