للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اعلمْ أنَّه إذا دَخَلَ المجادلُ على تَوطينِ النَّفسِ على الحُكمِ عن بادرةٍ إنْ كانَتْ من الخصمِ سَلِمَ مِن سَوْرَةِ (١) الغضبِ، واعلَمْ أنَّ تلك البادرةَ لا يَخلو: إمَّا أن تَكُونَ مِن رئيسٍ تُعرَفُ له فضيلةٌ، أو نظيرٍ يُغفَرُ له زَلَلُه، أو وضيعٍ تُرفَعُ النَّفسُ عن مشاغبتِه ومقابلتِه، فإذا عَرَفْتَ ذلك ووَطَّنْتَ النَّفسَ عليه: سَلِمْتَ مِن سَوْرَةِ الغضبِ.

واعلَمْ أنَّ الغضبَ ظَفَرُ الخصمِ إذا كانَ سفيهًا والغالبُ في السَّفهِ هو الأسفهُ كما أنَّ الغالبَ في العِلْمِ (٢) هو الأعلمُ، ولو لم يَكُنْ مِن شؤمِ الغضبِ إلَّا أنَّه عُزِلَ به عنِ القضاءِ، فقالَ الشَّارِعُ -عليه السلام-: «لَا يَقْضِي القَاضِي حِينَ يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» (٣)، وكما أنَّ القاضيَ يَحتاجُ إلى صَحْوٍ مِن سُكْرِ الغَضَبِ يَحتاجُ المناظرُ إلى ذلك؛ لأنَّهما سواءٌ في الاحتياجِ إلى الاجتهادِ، وأداةُ الاجتهادِ العقلُ ولا رأيَ لغضبانَ، فيَعُودُ الوبالُ عليه عندَ الغضبِ، بإرتاجِ طُرُقِ النَّظَرِ في وجهِه وضلالِ رأيِه عن قصدِه، فمِن أَوْلَى الأشياءِ التَّحفُّظُ مِن الغضبِ في النَّظَرِ والجدلِ؛ لِما فيه مِن العيبِ، ولأنَّه يَقطَعُ عن استيفاءِ الحُجَّةِ والبيانِ عن حَلِّ الشُّبهةِ.

ولا يَقطَعَ عليه كلامَه، فإِنَّه مانعٌ مِن الفهمِ، نَسأَلُ اللهَ أنْ يُوَفِّقَنا للصَّوابِ بمَنِّه وكَرَمِه.


(١) أي: حدته.
(٢) في «ع»: العالم.
(٣) رواه البخاري (٧١٥٨)، ومسلم (١٧١٧) من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ».

<<  <   >  >>