للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قالَ الطُّوفِيُّ: هذا يَقتضي وجوبَ الاجتهادِ عليه، ولَمَّا قُتِلَ النَّضرُ بنُ الحارثِ ببدرٍ جاءَتْ أُختُه قُتَيْلَةُ بنتُ الحارثِ، فأَنْشَدَتْ به أبياتًا منها (١):

أَمُحَمَّدُ! لَأَنْتَ نَجْلُ كَرِيمَةٍ

مِنْ قَوْمِهَا وَالفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ، وَرُبَّمَا

مَنَّ الفَتَى وَهْوَ المَغِيظُ المُحْنَقُ

فقالَ -عليه السلام-: «لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا قَبْلَ قَتْلِهِ مَا قَتَلْتُهُ»، ولو قَتَلَه بالنَّصِّ لَمَا قالَ ذلك.

ولمَّا أرادَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَنزِلَ ببدرٍ دونَ الماءِ قالَ له الحُبَابُ بنُ المنذرِ: إنْ كانَ هذا بوحيٍ، فنعمْ، وإنْ كانَ الرَّأيَ والمكيدةَ، فانْزِلْ بالنَّاس على الماءِ لتَحُولَ بينَه وبينَ العدوِّ، فقالَ لهم: «لَيْسَ بِوَحْيٍ، إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ وَاجْتِهَادٌ رَأَيْتُهُ» (٢)، ورَجَعَ إلى قولِهم، فدَلَّ على أنَّه مُتَعَبِّدٌ بالاجتهادِ (٣).

(وَ) على هذا القولِ (لَا يُقَرُّ) -صلى الله عليه وسلم- (عَلَى خَطَأٍ) إجماعًا، وإن كانَ الاجتهادُ عُرضَةَ الخطأِ، لكنَّه يُفيدُ الظَّنَّ، والظَّنُّ مُتَّبَعٌ في الشَّرعِ واجتهادُه -عليه السلام- أقلُّ أحوالِه أنْ يُفِيدَ الظَّنَّ، فيَجِبُ اتِّباعُه كغيرِه وأَوْلَى، وظنُّه -عليه السلام- لا يُخطِئُ لعصمةِ اللهِ -عز وجل- له بخلافِ غيرِه مِن النَّاسِ، أو يُخطِئُ لا يُقَرُّ عليه بل يُنَبَّهُ على الخطأِ فيَستدرِكُه.

(وَ) يَجُوزُ (اجْتِهَادُ مَنْ عَاصَرَهُ -صلى الله عليه وسلم- في زمنِه (عَقْلًا) عندَ الجمهورِ؛ إذ لا فرقَ بينَه وبينَ أُمَّتِه في أنَّه كانَ يَجُوزُ له أن يَجتهِدَ ويَحكُمَ بالقِيَاسِ من


(١) من بحر الكامل، والبيت تواتر أهل السير والأدب على إيرادهـ وانظر تخريج الأستاذ عبد السلام هارون مُوَسَّعًا في البيان والتبيين (٤/ ٤٣) الخانجي.
(٢) رواه الحاكم (٣/ ٤٨٢) وقال الذهبي في «مختصره»: حديث منكر.
(٣) «شرح مختصر الروضة» (٣/ ٥٩٥ - ٥٩٧).

<<  <   >  >>