بلدته، وهي على بعد ثلاثة فراسخ منا ولا تبعد عنك إلا قليلاً، فذهبنا إليه صبيحة يوم وقضينا فيم نزله برهة، حتى إذا زلقت الشمس عن كبد السماء خرج القوم إلى الخلاء للتنزه في غاباته ومزدرعاته. وأنت تعليم فيما تعلمين من أمري أنني فتاة لا أحب الغابات والمزدرعات، ولا الأدغال والأجمات، ولا أطرب لخرير الماء ودوي الريح وهزيم الرعد، ولا اغتبط بحرارة الشمس ووعث الطريق وخشونة الأرض واقتحام الصخور والتعثر بين أغوار الفلوات وأنجادها، ولا أستطيع أن أجد في نفسي تلك اللذة التي يجدها الشعراء المتخيلون في جمال الطبيعة وروائها، ومحاسن الأحراش وبهجتها. ولكنني لم أر بداً من الكون معهم والإصحاب لهم فمشيت صامتة ومشوا يتحدثون بجمال الحياة القروية وعيش العزلة بين سكون الطبيعة وهدوءها وجمال الكائنات وجلالها. والله يعلم أن أحداً منهم لا يعلم من نفسه أنه صادق فيما يقول أو من يتمنى لنفسه ذلك الشقاء الذي يحسد عليه الأشقياء. فكان مثلهم في ذلك كمثل أولئك الكاتبين الذين يكتبون الفصول الطوال في مدح الفلاح والتنويه بذكره والثناء على يده البيضاء في خدمة المجتمع الإنساني، حتى إذا مر ذلك المسكين بأحدهم وأراد أن يمد يده لمصافحته تراجع وكفكف يده ضناً بها أن تلوثها بأقذارها تلك اليد السوداء.
ومازلنا كذلك حتى بلغنا شاطئ النهر فراعنا أنا رأينا هنالك جمعاً عظيماً من الناس يتدفع فوق الشاطئ الآخر تدفع الموج المتراكب ويشير إلى الماء بأصابعه وينادي: الغريق الغريق! والنجدة النجدة!