للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالتفتنا حيث أشاروا فإذا رجل بين معترك الأمواج يصارع الموت والموت يصرعه، ويغالب القضاء والقضاء يغلبه. يبدو تارة فيمد يده للناس فلا يجد يداً تمتد إليه، ويختفي أخرى حتى تنبسط فوق صفحة النهر فنحسبه من الهالكين.

ومازال يطفو ويرسب، ويثب ويقع، حتى كلَّ ساعداه وابيضت عيناه واستحال أديمه، ولم يبق بين أعيننا منه إلا رأس تضطرب ويد تختلج فبكى الباكون، وأعول المعولون،

وتواثبت الأحشاء، وتزايلت الأعضاء، ومشى اليأس في الرجاء مشي الظلال في الأضواء، ونظر الناس بعضهم إلى بعض كأنما يتساءلون عن رجل رحيم، أو شهم كريم.

وأنهم لكذلك وقد زاغت أبصارهم إلى رؤوسهم، وتمشت قلوبهم من صدروهم. وإذا رجل يدفع الجمع بمنكبيه ويمر بين الناس مر السهم إلى الرمية، حتى اندفع إلى النهر وسبح إلى المكان الذي هبط فيه الغريق وراءه، وما هي إلا نظرة والتفاتة أن انفرج الماء عنهما فإذا هما صاعدان يمسك كل منهما بذراع صاحبه، فكبر الناس إعجاباً بهمة الرجل الكريم، وفرحاً بنجاة الغريق المسكين.

ولكنا ما كدنا نستفيق من هذا المنظر المحزن حتى راعنا منظر آخر أجل منه وقعاً وأعظم هولاً، فقد رأينا الغريق كأنما جن جنونه فظن أن مخلصه يريد به شراً وأنه ما أمسك بذراعه إلا وهو يريد أن يهوي به إلى قعر الماء فيعيده سيرته الأولى. فضربه بجمع يده في صدره ضربة قاتلة ثم أنشب أظافره في عنقه ولفه بساقيه لفة خلنا أن عظامه

<<  <  ج: ص:  >  >>