إذا أنت عدت بأفكارك إلى تاريخ الأعصر الغابرة تجد للفن المكان الأول في عظمتها، ولا ترى للعلوم إلا زاوية حقيرة في أسفار المنشئين وتواريخ المفكرين. أما الكليات الغربية التي تأسست في القرن الحادي عشر فلم تكن تشغل الطلاب إلا بالشعر القديم والأحاديث الحربية وتواريخ الآداب المختصة بأشهر شعوب العالم. فقد كان التلاميذ يدرسون اللغات اللاتينية، واليونانية، والعبرانية، وربما العربية والآشورية أيضاً، أو غيرها من لغات الشرق القديم، بدلاً من الطبيعيات والكيمياء والهندسة. ولم يدرسوا من تآليف الأقدمين إلا أشعارهم وتواريخهم وفلسفتهم، ضاربين صفحاً عما كتبه بعضهم في الرياضيات.
على أن العلوم أخذت في الانتشار رويداً رويداً منذ القرن الخامس عشر. فتعددت الاكتشافات، وزادت الأرباح، وتكاثرت المداخيل الآلية فانصرف الفكر البشري إلى العلم التجاري، وأمسى الفن شهيداً تقام له هياكل العبادة في أرواح الأفراد المفكرين من البشر. فالقرن العشرون الذي ندعوه عصر المدنية والنور ليس إلا عصراً ميكانيكياً تجارياً!. . .
قال رسكن الناقد الفني الكبير: كل شعب يرتقي عنده الفن إلى ما يقارب درجة الكمال تسقط مملكته وتتلاشى عظمته.
لست أدري إذا رأيت في حياتك صورة رسكن، أيها القارئ اللبيب. أما أنا فقد رأيتها! وكثيراً ما أنظر إليها فأحاول نتف شعر لحيته عندما أذكر جملته هذه.