لا فرق بين أن يكون ذلك العمل تمثالاً متقن الحفر أو قصيدة بديعة النظم أو حذاء محكم الصنع مادام كل من هذه الأعمال يقتضي لإتمامه قوة عقل وإذا قسنا أعمال المتأخرين بآثار الأقدمين لا يسعنا إلا المساواة بينها فيما تحتاج إليهِ من المقدرة العقلية لإتمامها وذلك يدل على أن مدارك النوابغ متساوية قوة في جميع العصور وإنما هي تتحول أحياناً إلى ما يوافق روح العصر ويقوم باحتياجات الاجتماع. وإذا كان فضل الأعمال على قدر الفائدة الناجمة عنها كان في علوم العصريين وأعمالهم ما يزيد منزلتهم العقلية رفعة عن منزلة أسلافهم المتفننين بلا ريب
إن العقل البشري كحجر الرحى يدور دائماً على نفسه طالباً ما يعمله فإذا لم يكن له من العلوم ما يصقله ويوسع نطاقه ويديره على محور الأعمال المفيدة والاكتشافات المهمة التي تشترك منفعتها بينهُ وبين أبناء جنسهِ ظل بليداً وحيداً بأفكاره يعمل لخدمة نفسه وسرورها فينصرف إلى بهرجة الفنون الجميلة ويلجأ لنظم القوافي في ظلال البنايات الضخمة صارفاً في سبيلها الوقت والتعب جزافاً في حين أنهُ متى تحول فكره إلى العلم اندفع بكليته إلى خدمته والاستفادة منه صارفاً همهُ إلى كل ما يجديهِ فائدة محسوسة من بحثهِ وجهاده. وفي هذه الحال فهو يأبى طبعاً أن يسير على خطة أجداده من تعشق الفنون وضياع العمر في
سبيل إتقانها
ويكفي لإثبات فضل المحدثين ما بلغ إليهِ عصرهم من الارتقاء المدهش في الزمن الأخير. فإنهُ ما أشرق فجر العلوم حتى استنار جو العقول والإفهام فتحولت الأبصار عن شفق الفنون السابح في ظلمات الخيال إلى