وإذ كنت آتيةِ بالأزهار نازعة عنها وريقاتها فارشة بها أرض القفص لعلي أرضيه كان يدوسها بإهمال متابعاً تغريده , كأنهُ فيلسوف لا يكترث للصغائر وإن كانت جميلة المظاهر , ولا يعمل في حياته إلا بما يشغل أفكاره وينبه قوى البحث وتسكره في آن واحد. كنت أجلس للدرس والتحبير فتشمئزّ نفسي أحياناً من عبوسة الكتب , ويقل قلمي في يدي كأنهُ صولجان تنازل عن ملكه , فيأخذ كناري في الزقزقة والتغريد وتأتي جماعة طير من الخارج وتضم تغريدها إلى تغريده كما تمتزج الألحان في طيات الأمواج. فتبتسم الأفكار على صفحات الكتب أمام ناظري , ويترنح اليراع بين أناملي , ويمايل تمايل الصفصاف بقرب الغدير , وتنجلي الغيوم عن فؤادي وتطرب روحي. وفي المساء كان يصمت الكنار إجلالاً لقداسة الظلام فيخفي رأسه بين جناحيه ويحمد جمود المفكّر. إذ ذاك تأتي بنات خيالي محلولة الشعر وورد الابتسام مزهر على شفتيها , ومصباح الشعر متقد في يمينها. فتعقد حلقة وتدور راقصة حول أحلامي , وتغني أناشيد على ألحان سرية كأعماق اللجج , أاشيد غريبة لم يسمعها الأخيال روحي المتموج بين تلك العذارى الراقصات , ولم أفهمها إلا بحاسةٍ سادسة تولد في قلب الشاعر في ساعات الوحدة والكآبة. بينا ملوك الجوازاء تطل من أعالي علاها ناظرة إليَّ من نافذتيّ , والكنار يرقبني بعينيه المخفقيتين تحت جناحيه الذهبيين