هاروت وماروت ويطَّرد بجملته كأنهُ قطعة من السماء هاربة في الأرض. وهل ترى في شاطئهِ تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء؟ هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافّ كأنهُ مصنوع من جلود الكتب. وما دمعتي إلاَّ النهر الذي نبتُّ في شاطئهِ وهي شيء وأصفاه لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية. من الحب الذي يقابل عنصر النار ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء. ليس كل مَن عصر عينيهِ فقد بكى. إن البكاء لأشرف من ذلك. وكما يكون الضحك أحياناً حركة في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسى لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحياناً تسمى حاسة الدموع. وما إن لقيت باكياً إلأَّ رأيت وجهه مقبلاً عليَّ كأنهُ يسألني: تُرى من أين يُذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعاً بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها. ولكن الباكي بها لا يجد من الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق لضعف إحساسه بالذل السياسي أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين. أريد أن أبكي أيها القمر لأنهُ يخيَّل إليَّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي وأني لا أكون في حاجة إلى البكاء إلاَّ حين تكون هي في حاجة إلى الدموع. ولقد شعرت مراراً باهتزاز عقلي في تصفح الأسفار , واضطراب نفسي في متاحف الآثار , واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار , فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها , كأنها روح عاشق