ولو كان الخالق قد مكننا في هذه الحياة من معرفة الحياة الأخرى لما عاد الموت حاجزاً ولكان من ينتظرون ساعتهم الأخيرة نفراً قليلاً.
فهذا الرعب هو أشد رابطة تربطنا بهذه الحياة. فالجبان الذي تهوله المصائب لا يردعه عن التخلص من حياته إلا ذاك الشك المخيف.
لماذا أبكي؟ ولماذا تنوحون على من فقدتم؟ هل نحزن على الموتى لأنهم تركوا من يحبون، وغادروا حياة طالما تنعموا بها؟ ما أقل نفع هذا الحزن وذاك البكاء. .! هل نبكي كل مساء أعزاءنا لأنهم يرقدون؟ هل نرثي أنفسنا ساعة النوم؟ وأي فرق بين الموت والنوم؟
نعم إن من ينام يبقى له أمل باليقظة بقوة مجددة عند شروق الشمس. ولكن هذا الأمل - ولو بعيد الأجل - يبقى أيضاً لمن يموت. وعند يقظته يشاهد أحبابه وأعزاءه، وبعد قليل يشاهدكم أنتم أيضاً. لأن أطول حياة هي كلا شيء: سل الشيخ الهرم ابن السبعين فيقول لك: مرت حياتي كسبعين دقيقة في الحلم فعلام نبكي إذن؟
وهذا الريب نفسه لا يخيف إلا بقدر ما تكون الحياة الأخرى بعيدة، ويزول تماماً ساعة الدنو منها. ساعة الموت تظهر لنا الحياة قاتمة تافهة، ويشرق علينا المستقبل تنيره أشعة الأبدية. فالإنسان عند موته يصفي حسابه مع العالم ويلقي بركته على أحباب قلبه، ثم يعرض عن كل شيء وينضم إلى نفسه ليقطع الحد الفاصل بينه وبين الحياة السعيدة: لم
يبق في الماضي ما يؤنسه، وأصبح في المستقبل كل ما يستميله.